كيري والأسلويون وحلول نتنياهو

عبد اللطيف مهنا

حتى قبل قدومه الأخير إلى فلسطين المحتلة، لم ينفك كيري يوحي بأن الحركة التصفوية الأميركية النشطة للقضية الفلسطينية التي يقودها هي قاب قوسين أو أدنى من بلوغها المراد. ذلك هو التوصل لفرض حل صهيوني على الأوسلويين الفلسطينيين تفاصيله باتت تتكشف لنا أكثر فأكثر عبر توالي التسريبات، ويصفه صاحبه بمسمى "اتفاق إطار سيضع إرشادات للمفاوضات".

لم يخفِ لا كيري، ولا مجمل الحركة الأميركية أصلاً، أن أمن الكيان الصهيوني وما يعرف بـ"يهودية الدولة" هما حجرا الرحى فيه، أما جوهره فـ"حل انتقالي" لا يبتعد كثيراً عن تصورات غلاة الصهاينة، أما لجهة التسمية لتمريره فهى هنا لا تهم، أكانت "اتفاق إطار"، أو حتى حلاً نهائياً يتم على مراحل، فالأهم عندهم أنه يفضي إلى تنازلات أوسلوية كارثية مضافة على القضية الفلسطينية، لا يبدو أن واقع أوسلويي رام الله لن يتيحها، كما أن الواقع الرسمي العربي سيوفر لها الغطاء المطلوب، بل هو الذي كان جاهزاً لذلك سلفاً، كما هو معروف.

ولا بأس هنا من أن يفضي حل كيري المزمع إلى تغيير صفة أو مسمى "السلطة" في رام الله بـ"الدولة"، أو حتى الإمبراطورية، مادامت بلا سيادة ولا حدود، ولا قدس ولا حق عودة، ولا حتى أرض ابتلعها ويبتلعها التهويد المكثَّف الذي لن يتوقف، مخلفاً مزقاً من كانتونات و"بانتوستانات"، أو معازل، أقرب إلى التجمعات البشرية الأشبه بالسجون الكبرى، التي تحاصرها المستعمرات، والتى لن توفر مخططات "الترانسفير" المستقبلية المرصودة لها حتى ما تحتها من الأرض التي هى قائمة عليها.

وإذا كان ما من بأس في توسيع بائس رقعها المهلهلة بالتخلي لها عن بعض مناطقها المسماة "ج" ، أو كما يقول المثل الشعبي "من ذقن عبيد افتل له قيد"، فالأخطر هو أن مبدأ "تبادل الأراضي"، المقرأوسلوياً وعربياً، قد يتيح للصهاينة استبدال فلسطينيي المثلث ببعض ما هودوه في الضفة، وأقله ما يطلقون عليها "الكتل الاستيطانية الكبرى".

الأسلويون الذين بدأت مصادرهم في تسريبات مقصودة على شكل شكوى من أن الأميركان يضغطون عليهم لتمديد المفاوضات لا يبدو أنهم، بخلاف بعض التصريحات الاستهلاكية المعهودة عنهم، في حال من لن يستجيب كعادته في النهاية لما سيفرض عليه، بالمقابل فقد حدد نتنياهو، في مؤتمر لحزبه "الليكود" شروط الحل المزمع ووضع إطاره سلفاً وبما لا يحيد قيد أنملة عن ثوابته ولا يخرج عنها، والتي لا يختلف فيها مع الأميركان ولا حتى مع ليبرمان أو عتاة من يدعون بـ"المستوطنين".

أولاً وقبل كل شيء، أعاد التأكيد على المؤكد بقوله إن "لدولة اسرائيل مصلحة ستراتيجية من المفاوضات السياسية". أما شروطه للحل فأولها أن "الاتفاق لن يوقَّع إلا إذا تم الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية"! بمعنى ليس إسقاط حق عودة اللاجئين إلى ديارهم فحسب، وإنما تشريع مخططات "الترانسفير" لفلسطينيي 48. ولا يكتفي بهذا بل يكمل، "وإلا تخلى الفلسطينيون عن حلمهم بحق العودة"، أي يسقطوه بأنفسهم وحتى عليهم أن يعطوه ضمانات بذلك، "ثم أية مطالب من أراض الدولة اليهودية"، أي كل ما ضم أو سيضم رسمياً من الضفة، كالقدس، ومستعمرات الضفة، وما وراء الأسوار العازلة، وربما الأغوار لاحقاً، ويزيد، "وفوق ذلك كله إن الاتفاق سيكون ممكناً إذا كانت اسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها في وجه أي تهديد"، بمعنى التأكيد على ما يعرف بالضمانات الأمنية، الأوسلوية منها والأميركية، وتعاظم سيول الدعم والمساعدات الغربية المتوفرة لكيانه أصلاً، وكذا الدويلة المنزوعة السلاح، والتفوق العسكري الصهيوني على كامل قوى الإقليم مجتمعة.. الخ. وبعد هذا كله تعهد نتنياهو بأن "أي اتفاق سيتم سوف يطرح على الاستفتاء العام".

الجنرال يعلون وزير الحرب بدوره أدلى بدلوه التسووي، قال فيما يشبه طمأنةً للصهاينة، والرد على بعض التصريحات الاستهلاكية الصادرة في رام الله، "إن أحداً يظن أن هذا الصراع سينتهي على خطوط 67 فهو ببساطة مخطىء"، أما نائب وزير الخارجية الكيان فزاود عليه بأن اعتبرها "حدود اوشفيتز"!!!

إن ما تقدم يشي بمنعطف تصفوي خطير يبيت للقضية الفلسطينية، وفي ظل هذا الراهن العربي الأسوأ، والعجز المزمن لفصائل المقاومة التي أدمن اغلبها المعارضة البيناتية وكفى الله المؤمنين شر القتال، يواصل الأسلويين مفاوضاتهم المكتومة على تفاصيله في ظل الخيمة الأميركية المتصهينة، ويوالون محاولة تغطية ما يقترفون بضجيج احتفالاتهم المفتعلة بالإفراجات بالقطارة عن أسرى "ما قبل أوسلو" ممن أمضوا أكثر من عشرين عاماً في معتقلات الصهاينة، أو الدفعة الثالثة التي شملت 26 أسيراً، وتصوير وتسويق ذلك كمنجز تفاوضي، ورغم أن عودة هؤلاء الأبطال إلى أسرهم يفرح كل الفلسطينيين، إلا أنه من المؤلم لهم أيضاً أن هذا المستحق كان مدفوع الثمن الباهظ سلفاً، وهو العودة البائسة لطاولة المفاوضات التصفوية، والتعهد الأوسلوي بعدم التوجه إلى مؤسسات الأمم المتحدة، والسكوت على التوسُّع التهويدي المتسارع الوتيرة، وتشديد الحصار الإبادي البشع، والمزدوج صهيونياً وعربياً، على غزة الصامدة، والحفاظ على الشرذمة الفلسطينية، أو ما يدعى حالة "الانقسام الوطني" القائمة. هل ما تسعى إليه الحركة التصفوية الأميركية ويوحي به كيري قدراً محتماً؟!!

للجواب، وقد لا يحول دونه سوى اندلاع انتفاضة شعبية ثالثة، هى مستوجبة وباتت استحقاقاً وطنياً منتظراً، بل ضرورة ومسؤولية نضالية فلسطينية آن أوانها.

4/1/2014