أوكرانيا سخونة في حرب باردة

عبد اللطيف مهنا

لا تحجب تطورات المشهد الأوكراني المأزوم مسألة سوف تبدو لنا في غاية الوضوح إذا ما حاولنا النظر إلى ما هو خلف أكمتها الزاخرة بتعقيداتها الكثيفة والمتزايدة. مسألة يمكن اختصارها في كون الغرب لازال في حال المصر على سياسة مد نفوذه الأوروبي والتوسع به شرقاً، أي أنه لا ينوي الكف عن اللعب في الحدائق الخلفية الروسية التاريخية المتهتكة أسيجتها بعيد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبالمقابل، فإن روسيا، روسيا بوتن، الناهضة بعد سبات شتوي لم يطل، والجاهدة لاستعادة أمجادها الغابرة، تستميت في الذود عن حياضها المنتهكة، ولذا فما من شك في أننا أمام فصل ساخن ويتقد من فصول الحرب الباردة وفي مجرد ساحة واحدة من ساحاتها المتعددة، والتي أذكت ذات تليد السياسات التوسعية الغربية أوارها، بعد أن كان العالم قد توَّهم إلى حين لم يطل خمودها. أي لا يمكن اختصار الأزمة الأوكرانية فقط في انقسام هو واقع بين شرق مصنَّع وذو أغلبية أرثوذكسية ناطقة بالروسية وميالة لروسيا، وغرب ريفي فلاَّحي غالبه كاثوليكي وذو جنوح غربي تاريخي، رغم أن لمثل هذا الانقسام جذوره التاريخية والثقافية والسياسية الضاربة التي يستحيل تجاهلها. ولا ابتساره في الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها هذا البلد والتي تضعه على حافة هاوية الإفلاس. بلد انخفض عديد سكانه في الحقبة التي تلت الانهيار السوفيتي بما زاد على الستة ملايين ونصف المليون لتناقص الولادات، وغادره للبحث عن لقمة العيش قرابة هذا العدد، نسبة غير قليلة منهم إلى روسيا بالذات. وتصل نسبة البطالة فيه، وفق بعض التقديرات الغربية، إلى ثمانين في المائة. بل لابد لنا أن نضيف لما تقدم من أسباب ماهو أهمها، أي الأسباب الجيو-ستراتيجية الغربية، أو العودة بالذاكرة إلى مخططات الأميركي بريجنسكي ذات العلاقة، وهو الأمر الذي أشار إليه وزير الخارجية الأوكراني عندما قال للغربيين إننا "لا نريد أن نكون بيادق في لعبة جيو-سياسية". وعليه، فإنه لن تُجدِ تنازلات فيكتور يانكوفيتش، رئيس الجمهورية، أو استعداد حزبه، حزب الأغلبية الحاكم، للتنازل للمعارضة عن قيادة الحكومة في تمكين البلاد من الخروج من أزمتها المستفحلة، مادام الهمس الأوروبي المحرِّك والمحرِّض ينفث تهييجة في آذان أحزاب المعارضة الثلاثة، الوطن، واودار، وسبوفودا الفاشي، والهيئات الأخرى المدعومة والممولة من الغرب، والتي تصرُّ على تعديل الدستور، وتعديل قوانين الانتخابات، وتقليص سلطات رئيس الجمهورية، أو تقزيمه، بما يعني تغيير نظام الحكم بأكمله، الأمر الذي لن يقبله الروس، وهم اللذين يدركون أن "الناتو" يضع عينه على قاعدتهم البحرية في سباستبول في القرم على شاطىء البحر الأسود، لذا فالمسألة بالنسبة لهم تتعلق بأمن روسيا في الدرجة الأولى، وموقعها أو دورها الكوني مستقبلاً من الناحية الثانية. ولأن الأمر بالنسبة لهم هو كذلك، كان تعهُّد بوتن بالإلتزام بتقديم قروض روسية لأوكراينا وبلا شروط، وتخفيض سعر النفط الروسي المصدَّر لها إلى الثلث، وذلك بعد تراجعها عن توقيع اتفاقية التعاون مع الاتحاد الأوروبي، والذي استثار قوى المعارضة وفاقم الأزمة. بل واقتراحه اتحاداً جمركياً يجمع بلديهما مع كل من كزاخستان وبيلوروسيا، أي ما دفع الغرب لتصعيده التحريضي في مؤتمر ميونخ للأمن، وإبداءه الاستعداد للتوسط بين طرفي الأزمة الأوكرنيين، أو ما أغضب بوتن واعتبره تدخلاً مرفوضاً في الشأن الأوكراني. ثم كان أن أعقبه ذهاب أشتون إلى كييف، تبعه وصول مبعوثاً أميركياً إليها، ذلكم تحت يافطة التلويح بخطة إنقاذ غربية ومساعدات مالية غامضة ومشروطة بعملية إصلاح وانتخابات رئاسية وحكومة انتقالية موسَّعة تشكِّلها المعارضة، أو وفقما قالت أشتون، إن تقديم الأموال للأوكرنيين "يتوقف على مدى متابعة الحكومة الأوكرانية الجديدة إجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية". وهنا لابد من ملاحظة أن الأوروبيين، رغم كل هذه الفزعة المؤيدة للمعارضة، لم يطرحوا مسألة انضمام أوكرانيا إلى اتحادهم. إذن نحن في أوكرانيا إزاء واحدة من جولات صراع روسي غربي لا يمكن عزله عن ما سبقه من جولات في باقي الجبهات الأخرى، ومنها جورجيا، أو أوسيتا الجنوبية وابخازيا مثلاً. صراع بين تمدد غربي يرى الروس أن مواجهته إنما هي مسألة دفاع عن النفس، وقد يعدونه جولة من جولات هذه التحولات الكونية التي لابد وأن تعصف بما تبقى من أحادية القطبية الأميركية الآفلة وبزوغ عالم متعدد الأقطاب والمراكز واستعادة بعض ما فقدوه من دور لهم كقوة عظمى بعيد الانهيار السوفيتي. ولذا لا يمكن فصل هذا أيضاً عن المناورة المشتركة اللافتة لحاملتي الطائرات، الروسية "بطرس الأكبر"، والصينية "يانتشينغ" في البحر الأبيض المتوسط. وهل يمكن عزله عن التزايد المضطرد في الحقبة البوتينية في موازنة التسلح الروسي، والتركيز فيه على مستجد النسخ من الأسلحة فائقة التطور والمحدثة؟!

إنه صراع روسي غربي، وفصل ساخن من فصول حرب باردة غير معلنة العودة، وأحياناً يصعب على طرفيها تمويهها، وقد تقود إلى تقسيم أوكرانيا إذا ما تفاقمت رحاها، وهي، على أي حال، البلد الذي قد يكون الجاهز فعلاً، وللأسباب التي بيِّناها سابقاً، لمثل هذا المصير، وهذا هو الأمر الذي حدا بالجيش للتعبير عن مخاوفه من حدوثه، ومن ثم دعوته لرئيس الجمهورية إلى المبادرة باتخاذ "تدابير عاجلة" لدرئه، أعقبه تعبير المعارضة بدورها عن خشيتها من فرض حالة الطوارىء التي تخشى أن يكون لها ما بعدها.

8/2/2014