العراق وصراع الكبار

الدكتور مهند العزاوي *

يدخل العراق مرحلة مركبة ومعقدة من تداخل الأحداث وصناعة الأزمات وتصفيرها واتساع نطاق العمليات الحكومية بطابعها الطائفي والعمليات المسلحة المضادة للعشائر المنتفضة على الأرض في الأنبار والمحافظات الأخرى، وبنفس الوقت يلاحظ اشتداد الصراع والتنافس الدولي بين مثلث القدرة الدولية (روسيا، الصين، الولايات المتحدة) على ترسيخ نفوذهم بالعراق والمنطقة، باستخدام استراتيجية التواجد وسياسة الوصول الروسي الصيني عبر إدارة الحروب الوقائية وفتح سوق السلاح وإخضاع مثلث العراق سوريا لبنان لنفوذهم، وبنفس الوقت تستخدم إدارة أوباما استراتيجية الاقتراب الغير مباشر عبر الانعطاف السياسي والعسكري وتوظيف حروب الوكالة وذكاء النزاعات الأهلية وتعزيز صراعات السلطة لإشغال المنطقة بنفسها من الداخل، لديمومة سوق السلاح وتجارة الأمن القومي والنفط من جهة أخرى ويتم ذلك بأدوات ووقود عربي، في ظل غياب واضح للدور العربي.

تقاسم النفوذ والتأثير

يبرز للعيان التنافس الواضح بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث يتفقون في مواقع كثيرة ضمن فلسفة تقاسم النفوذ والتأثير والمصالح والسوق، ويختلفون في التطبيقات والتفاصيل، ويبقى اللاعب الثالث الصين الذي يحتكر استيراد ثلث نفط العراق متخفياً غير ظاهر بالرغم من ظهوره بالأمس في العراق وإعلانه الصريح بنيته فتح سوق للسلاح في العراق لإدامة مرجل الموت الزاحف، بينما يقوم الجيش الصيني بتأسيس هيكل قيادة مشتركة لعملياته بهدف تحسين مستوى التنسيق بين مختلف أفرعه العسكرية، ولتزال الصين لاعب مستفيد من تقاطع واختلاف روسيا وأميركا في مسرح المصالح بالعراق وسوريا والمنطقة، وكما يبدو أن هناك فشلا واضح في رسم معادلة التوازن الدولي والعودة إلى سياسة القوى بدلاً من الاعتماد على معايير قواعد التوازن ((المعادلات، التعويضات، التحالفات، المصالح، الشرف، الهيبة)) وهذا ما يغيب المجتمع الدولي ويجعله متفرجاً على التصدعات والحروب والانتهاكات الجارية.

صناعة الإرهاب وتوظيفه

تختلط الأوراق وتهرب الإدارة الأميركية في معالجة التدهور السياسي بالعراق كونها الراعي الرسمي للعملية السياسية وبناء القوة العسكرية، ونظراً لخشية أوباما فقدان انجاز الانسحاب من مستنقع العراق، فهو متردد في التدخل في سوريا والعراق، وبذلك انتهزت كل من روسيا والصين هذا التردد لتباشر بالتعرض السياسي والعسكري لتوسيع نفوذها عبر مخلب القط الإقليمي، وسعت لخلق توازن النفوذ من خلال صناعة الإرهاب وتوظيفه عبر توسيع الإرهاب بصناعة تنظيمات حديثة تتسق من حيث المظهر والشعار والسلوك بأهداف الحرب على الإرهاب وتختلف من حيث النتائج والتوظيف، حيث أصبح الإرهاب صناعة توظف لأغراض سياسية تتسق بالسياسة الخارجية والداخلية للدول. ولكن في العراق طبيعة الصراع يتطور بشكل مخيف نتيجة لحروب السلطة الداخلية الممزوجة بالكراهية الطائفية والأدلجة المذهبية وفقاً لأساطير وهمية صنعت لتمرير مشروع إقليمي عابر للوطن والمواطن، أنتج تمزيق اللحمة الوطنية العراقية وتفكيك المجتمع العراقي إلى طوائف ومذاهب وأعراق وعشائر منفصلة يحارب بعضه الآخر، وبات احتكار السلطة والنهب الحر للعراق وطوئفة القانون وانتهاك حقوق الإنسان والقتل خارج القانون من سمات عقد ما بعد الغزو الأميركي للعراق، مما جعل من العراق يحترق بشكل متسارع وتتآكل بنيته التحتية الهشة.

العراق بنك إقليمي

اضحى العراق بنكاً مالياً دولياً وإقليمياً يمول أزمات وقصور الدول على حساب رفاهية وأمن واستقرار الشعب العراقي نفسه، من خلال إذكاء وصناعة الحروب الداخلية، وتصفير التهديدات الخارجية الحقيقية، وصناعة الأزمات السياسية والأمنية بالداخل العراقي، وقد تمخض عنه ملايين المهجرين العراقيين وقد تخطوا (4) ملايين مهجر يسكنون دول الاغتراب وأوضاع الكثير منهم بائسة، ناهيك عن هجرة العلماء والكفاءات الوطنية التي وضعت في دائرة الاستهداف والاغتيالات لتصفير مقومات الدولة العراقية، وإبقاء العراق دويلة طائفية هشة تستعين بالآخرين دون الاعتماد على قدراتها وخبرات أبنائها، خصوصاً بعد أن تصدر سدة السياسة أحزاب وشخصيات وافدة لا تمتلك تاريخاً سياسياً أو علمياً أو مهنيا وطنياً يرتبط بالعراق.

القوة الفاعلة الانسيابية

تعد الإرادة الدولية غائبة والمجتمع الدولي مغيب من خلال ممثليه الغير فاعلين في العراق، وكما أعتقد أن هناك شبه توافق وتقاطع مصالح روسي اميركي صيني على ما يجري من حروب ونزاعات وأزمات في العراق لأنها تؤسس لسوق طويل الأمد للسلاح وتجارة الأمن القومي، وكما يبدو مؤخراً أن التنافس على أشده في أوكرانيا ضمن خارطة النفوذ الدولي، وبعد التغيير في أوكرانيا ستسعى الأطراف المتصارعة إلى البحث عن رقع مشتركة أخرى يجري حسم النفوذ فيها وبلا شك مثلث العراق وسوريا ولبنان مرشح ساخن لحرب مركبة باردة ناعمة غير مباشرة، تدار عن بعد بوكالة إقليمية وبأدوات وبوقود عربي، وهذا يجعل البعض يتخبط في سياسة التحالف ويلهث لهذا الطرف أو ذاك، دون الأخذ بنظر الاعتبار مقومات التأثير الأساسية والمتجسدة بالقوة وهي جوهر الصراع، وخصوصاً القوة الفاعلة الانسيابية التي يمكنها أن تسجل تغيير في خارطة النفوذ والسياسة، خصوصاً بعد فشل الحرب المحدودة لدواعي انتخابية في الأنبار ورديفتها الحرب الإعلامية والدعائية، واتساع نطاق العمليات من الأنبار إلى محافظات أخرى، ودخول الدول الفاعلة بشكل مباشر لمسرح العراق الحربي الساخن كروسيا والصين وأميركا، ولعل المواقف المتغيرة على الأرض وظهور قوى مسلحة عشائرية جديدة سيغير من معادلة السياسة الداخلية وشكل التوازن في المنطقة برمتها، انطلاقاً من تغيير خارطة النفوذ والتواجد بالعراق بعد انهاك الوكيل الإقليمي في حروبه المذهبية.

خلاصة

أثبتت الوقائع والتجارب والسلوكيات أن القوة الطائفية المفرطة التي استخدمتها السلطة بالعراق طيلة ثماني سنوات لم تجدي نفعاً، وكانت بمثابة استنزاف منظم لموارد العراق البشرية والمالية والمعنوية، وكانت بمثابة مرجل لإذكاء العنف والكراهية الطائفية التي تمزق الجسد العراقي، ولعل من أنجع الحلول هو الحل السياسي المتمثل بإعادة رسم السياسة وإعادة تشكيل المنظومة السياسية والعسكرية والأمنية والقانونية والمؤسساتية على أسس وطنية مهنية عصرية تتسق بنظرية الدولة وفلسفة المواطنة العادلة وتاريخ العراق الحضاري والمؤسساتي وهو الخيار الأصوب. وبلا شك أن الحرب على الأنبار أبعد عن الحسم، وأقرب إلى التمدد للمحافظات الأخرى على عكس ما تروجه وسائل الإعلام من أخبار تفتقد للاستقصاء والدقة، وبلا شك أيضاً أن التصدر لسدة العمل السياسي وإدارة الحكومة يعتمد على الإنجازات والتنمية المستدامة والاقتصاد المتين والتطور المعرفي، وتعزيز التماسك والتلاحم المجتمعي، وهذا ما يفتقره العراق وساسته الجدد الوافدون على بساط الغزو والحرب.

* مفكر عربي من العراق

‏الأربعاء‏، 26‏ شباط‏، 2014