من "أركيولوجيا" الحرية بين جناحي الأطلسي: القَتَلة يُحاكمَون ولا يُفاوَضون

مطاع صفدي - مفكر عربي مقيم في باريس

منذ الحرب العالمية الأولى قبل مئة عام لم يحدث أن اندلع أي صراع سياسي حدي بين ضفتي المحيط الأطلسي، أوروبياً وأمريكياً. قارة العالم الجديد أنقذت أوروبا العجوز مرتين خلال الحربين العالميتين. مثقفون فرنسيون كثيرون، ومنهم المؤرخون وعلماء الاجتماع والإناسة يقرون هذه الحقيقة، لكنهم في الوقت عينه يقتحمون خطوطاً عديدة لنماذج من الفروقات وليس من الخلافات بين المجتمعات، في العقلية والطباع والمسالك والقيم ما بين شعوب القارتين. إنها فروقات تفصيلية في أركيولوجيا النشوء والتطور لكل من هاتين القارتين، قد لا تكون لها مؤثراتها المباشرة والحاسمة في العلاقات البيْذاتية لدولها الحاكمة، خاصة بعد أن خضعت الدبلوماسية الدولية لأحكام الموازين الاقتصادية ومنطقها الحصري بلغة المصالح وحدها.

فالأوربيون الغربيون إجمالاً مثابرون على التمسك برصيدهم الغني والمتنوع من المبادئ الأخلاقية والحقوقية المستمدة من تجاربهم الدموية والحضارية الكبرى. والفرنسيون منهم تحديداً، لا تزال نُخبَهُم الفكرية تعتز بالمشاركة الفرنسية الفعالة كدولة وشعب، في ثورة الاستقلال الأمريكي، وطرد الاستعمار البريطاني من ذلك الوطن الشاسع الذي ستُبنى على ترابه أحدثُ دولتين جديدتين في عصرهما، الولايات المتحدة وكندا.

والتاريخ يقول لنا أن أمريكا الشمالية لم تشيّد صروحَ دولها الكبرى هذه (الولايات المتحدة، وكندا، وبعدهما المكسيك) إلا بعد حروب وثورات ودمويات ومؤامرات. شاركت فيها جميعاً الأهم من دول أوروبا، الفاتحة والمدشنّة لعصر الاستعمار الاستيطاني. وهي بريطانيا وفرنسا وإسبانيا.

هذا الماضي الصاخب لم يكن ليغيب عمقه عن خارطة السياسة الدولية حتى وقتنا الحاضر. فإن تناقضات المصالح بين دول الاستعمار التقليدي ذاك هي التي ساعدت المستوطنين الجدد في أصقاع القارة البكر على تجسيد كيانات دولانية لمطامحهم الاقتصادية، مستقلةً ومنفصلةً عن أوطانهم الأصلية، متحررة نسبياً من تقاليد أنظمة الحكم المطلق السائدة آنذاك في أوروبا.

فقد أطلق هؤلاء، مع أحرار أوروبا، اسم (العالم الجديد) المتنامي بسرعة في الشمال الأمريكي مقابل أوروبا التي هي العالم القديم، هذا الذي يتطور قِدَمَهُ طيلة قرنين حافلين بإبداعات الحداثة العلمية والتنظيمية وأثمانها الباهظة، معنوياً ومادياً، وعبر مسلسلات حروب القارة التي سوف توصف بالحروب الأهلية بين وداخل شعوبها؛ وصولاً إلى صيغة الحرب العالمية الأولى والثانية، لتخرج منهما أوروبا منهكة مستنفدة، وتتقبل أن تسمي نفسها في المصطلح الدولي بالقارة العجوز.

عندما توافق الألمان والفرنسيون على إقامة الاتحاد الأوروبي، كان في اعتقادهم أن هذا الاتحاد يضع حداً أخيراً لأسباب الحروب المتناوبة بين كيانيْهم المتصارعين على حكم أوروبا. وقد لعبت أمريكا دور المنقذ لفرنسا وأوروبا معها، من السقوط تحت نعال الجيوش الألمانية المتفوقة دائماً عُدةً وعدداً، وبالروح العنصرية الجرمانية، فلماذا لا يتفق الشعبان على دفن أوهام العسكرية الانصارية، وإفراغ خزان الكراهية الشعبوية من أحقاد الثأر والانتقام المتبادلة بين هاتين الأمتين الناهضتين معاً بأعباء الحضارة الأوروبية فريدة نموذجها للإنسانية جمعاء..كما اعتقدتا سابقاً.

منذ أن قام الاتحاد الأوروبي بدأ التباين البنيوي يدبّ بين شاطئي الأطلسي. فقد رأى الأمريكيون فيه مشروعاً كيانياً شمولياً، وليس مجرد تحالف إجرائي قد يكون عابراً في الاقتصاد والسياسة وحتى الأمن. وفي هذه الحالة قد يصبح مقبولاً نسبياً؛ لكن قيام اتحاد لقارة كاملة، وهي الحاضنة لأصول وفروع معظم شروط الحضارة القائدة لتقدم البشرية، فذلك يعني أن أوروبا لم تعد تلك القارة العجوز، المرشحة تدريجياً للغياب من مقدمة مسرح التاريخ العالمي. وهي لا توهم ذاتها بإمكان تجديد شبابها الضائع، بل لعلها باتت على أهبة الاستعداد لأن تلد ولادة ثانية، مختلفة كلياً عن ولادتها الأولى، وعن مسيرة حياتها السابقة. ستعيش السلام الحقيقي الذي ليس هو هدنة بين حربين، لكنه هو السلام عينه الذي سيظل يشبه نفسه في كل الأحوال والأزمة. فهل سيضاهي الاتحادُ الأوروبي، ان تكاملت شروطه المنتظرة، مشروعَ الولايات المتحدة في أمركة العالم.

هل سوف ينقسم الغرب المتقدم على نفسه، إلى ثقافتين، واحدة تنيط بالسوق، بالاقتصاد وحده، حاكميةَ الأمر والنهي في الشأن الإنساني والمجتمعي عامةً، وهي أمريكا. والأخرى، هي اوروبا كما ستعرف نفسها في مرآة وحدتها رائدةً لثقافة حقوق للإنسان، فإنها تعزو هذه الحاكمية لسلطة الحرية، وحدها؟.

غير أن هذا الانقسام لم يبلغ حدَّ التناقض بين القارتين، فكانت أوروبا في معظم الأزمات السياسية الدولية، حريصة على إبقاء مواقفها النقدية وحتى اعتراضاتها في حدود الجدل الإيجابي ما بين أعضاء الفريق الواحد. فالجناحان الغربيان محتاجان لبعضهما في السرّاء والضرّاء. وقد أثبتا ذلك في مختلف التحديات التي واجهت أحدهما أو كليهما معاً. لكن التحدي الأعظم والذي ما زالت مفاعيله سارية المفعول، فيمكن تلخيصه عبر السؤال المصيري الذي يؤرق مخيال مفكري القارتين، منذ انفجار الأزمة الاقتصادية شبه العالمية وبروز دول الاقتصادات الشرقية الصاعدة؛ إنه سؤال وجودي أنطولوجي من الدرجة الأولى يتناول ما سيكون عليه مستقبل قيادة الغرب للعالم منذ اليوم وإلى ما بعد الغد.

هذه القيادة تعاني محنتها راهنياً من خلال اشكاليات متنوعة لحتمية التغيير الذي راح يهز أسس ما يسمى بالنظام العالمي. وفي طليعة هذه البوادر تبرز ثورات لربيع العربي ومضاعفاتها كأنها النموذج المتقدم عن الحراك المستقبلي، عن استراتيجية أخرى للتاريخ، هي صنيعة نفسها أولاً، وليس لأية مؤامرة يَدٌ في انفجاراتها، ومن ثم أحداثها المتشابكة والمتعارضة. فالغرب ارتبك بفجائيات هذه الثورات، تضاربت آراؤه وتحليلاته وتدخلاته. لكن الفارق المتنامي، ولعله هو الأكبر والأحدث، ولأنه مرشح ليصير خلافاً حقيقياً بين ضفتي الأطلسي، صار محركه المستمر هو الخوف الأوربي من استراتيجية انكفاء القيادة الأمريكية، وكان نموذجها الصاعق هو في الانكشاف الأمني لمكامن الثورة العالمية في "الشرق الأوسط" والقارة الأفريقية. فالاتحاد الأوروبي ليس مُعدّاً بعدُ لإنشاء القوة العسكرية المكافئة لحجمه السكاني والجغرافي ومصالحه الذاتية. وإذا كانت إدارة أوباما قد قررت ونفذت عملياً سياسة الاستقالة من أدوار الحماية والتوسع لمصالحها، هي وشريكتها الأوروبية معها، بإرادتها أو بدونها، فإن الأقطاب الرئيسيين لهذه البلاد المتحضرة جداً، عليهم أن يقروا ويعترفوا بأن اوروبا هي حقاً القارة العجوز، غير القادرة على إنتاج أسباب الحماية الأمنية لمدنيتها. وأن جنوبها العربي والأفريقي، ربما رجع إلى طبيعته السابقة، إلى مساحات واسعة سائبة، مفتوحة لشُذاّذ الآفاق، من أصناف المغامرين من مجاهيل الدول والفئويات العصبية وأضرابها.

ذلك هو الموقف الأصعب الذي تتيه في متعرجاته عبقريةُ الاستراتيجيا القيادية للغرب، على الأقل. وقد يصل إلى أعقد هذه المتاهات مع استفحال المأزق الأمريكي حيال الشريك المضاد، الروسي في معالجة الربيع السوري الملطخ بفضائح الكوارث غير المسبوقة بفظائعها. كأنما عقلية أوباما لا تزال تعتقد أن القتلة يمكن أن يُفاوضوا، وليس أن يُحاكموا. وأن الوحوش الضارية قد تتنازل طوعاً عن أنيابها ومخالبها رأفةً بضحاياها!

أسطورة الحل السلمي أمست رديفة لأسطورة الحل العسكري، فالتشويه المعمّم على مفردات الأحداث السورية، يساهم أصحابه في اصطناع رهان على الوقت من أجل المزيد من طمس الثورة الأصلية، وإغراقها أكثر فأكثر في مستنقعات المقتلات العبثية الجماعية.

ترى إلى أي مدى حاول الرئيس الفرنسي في زيارته (الملكية) إلى أمريكا تذكير رئيسها الأسمر الحائز على جائزة نوبل للسلام، ما قبل دخوله إلى البيت الأبيض، ببعض ملامح أو فواصل أركيولوجيا هذه العلاقات الملتبسة بنيوياً وتاريخياً بين القارتين؟. هل كان لتاريخ الثورتين الأمريكية والفرنسية من أجل الحرية والمساواة ثمة حضور، ولو رمزياً، في جلسات "الزعيمين الكبيرين"؟. هل كان لهما ثمة درس واحد على الأقل أن الحرية هي قسمة عادلة بين أمم الإنسانية قاطبة، وإن الانتصار لبعضها لا يعني اللامبالاة بأمثالها؟.

أركيولوجيا المواطنة الحرة العادلة سجلت فلسفياً وحدثياً في وقت واحد، لائحةَ حقوق الإنسان لكنها تناست سهواً ربما، الحقَّ الأعظم في التغيير، وهو حق الثورة. ما يعني حق الثورة بالانتصار. فإن مظالم الاستبداد لا تكفي وحدها لاندلاع أية ثورة، إن لم تتزود هذه الثورة بإمكانيات النصر. ذلك هو رهان معقوليتها لدى أبطالها الواهبين حياتهم ومستقبلهم لسعادة أجيالهم القادمة. هذه العبارة ليست دعوة رومانسية. لقد أنتجت أعدلَ ثورات التاريخ التي من دونها لم يكن لإنسانية العصر أن تسعد بأقل نصيب من حق الحياة السوية حتى بالنسبة لدول الغرب بجناحيه.

16/2/2014