الزعامة التاريخية العربية باحثة عن وريث مشروع وحقيقي
مطاع صفدي - مفكر عربي مقيم في باريس
الزعامات التاريخية المؤثرة في مسيرة الدول والحضارات، لا تتكرر نماذجها، وإن ظهر أشباه عديدون لها، ثلاثة أنبياء، موسى، عيسى ومحمد، شرّعوا أديانَ العالم منذ آلاف السنين ولا يزالون. أما على صعيد الإنجازات العسكرية والسلطوية هنالك بضعة أسماء كذلك، أقاموا أو أنهوا امبراطوريات.
وحتى لا نذهب بعيداً في الماضي، أو في الجغرافية الكونية من حولنا، نقول أن عرب العصر الراهن عرفوا شخصيات قيادية أحدثت انعطافات عامة في حياة شعوبها ودولها وحضاراتها. غير أن رجلاً واحداً هو جمال عبد الناصر، خصّه التاريخ العربي المعاصر بزعامة نهضته الجديدة. فقد أهلَتَه مبادئه وأفعاله للفوز باستحقاق هذه الزعامة، لم يكن التاريخ في حينه مجسداً بمئات ملايين الأمة العربية وحدها، كان تاريخ المرحلة الكونية المتوجة بعنوان حركات التحرير لشعوب ثلاث قارات من عالم النصف الثاني للقرن العشرين: آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، قد شكل هذا التاريخ مولداً مبكراً للسلام الكوني، وذلك وسط حَمْأة الصراع الأخطر المهدد بفناء الإنسانية.
إنها الحرب الباردة التي لا يكاد يذكرها الجيل الراهن غرباً وشرقاً. فلقد كانت هذه الحرب تتوعد إنسانية المعمورة كاملةً بالضربة النووية القاضية، يبدؤها أحد القطبين، ليردّ عليه القطب الآخر إن كان له وجود بعد المبادرة الصاعقة. وبين الاثنين كان العالم كله سيتحول إلى صحارى نفايات نووية في كل أصقاعه وحضاراته. إنها الحرب الباردة كأسم وكعنوان، لكنها كانت محملة بمشروع جهنم على البشرية جمعاء. كان مستقبل العالم يتوقف على خطأ تقني يرتكبه موظف أو عسكري مغمور، أو ينجم عن عطل فني ما، ذلك الخطأ الذي يمكنه أن يطلق الصواريخ الحاملة للقنابل النووية الموجهة من معسكر هذا الفريق ضد الفريق الآخر، والعكس صحيح كذلك.
لم يحتكر رئيسا الاتحاد السوفييتي وأمريكا وحدهما قرار جهنم، لم يكونا وحدهما مالكْين لمصير الوجود الإنساني على الأرض. كان الموظف أو العسكري أو الآلة، هم أسياد الموعد مع يوم القيامة. هل يمكننا اليوم أن نتخيل حدودَ غباوةٍ أفظع من تلك التفاهة فيما آلت إليه حضارة العنف المطلق إبان تقلبات الظروف الصراعية خلال تلك الحرب الباردة والمشؤومة؟
خلال خمسينيات القرن الماضي كانت شعوب أوروبا وأمريكا، ووراءهما بقية الآدميين، متعايشة بين يوم وآخر على إيقاع من صُدَف السياسة الدولية، والصراعات اليومية المفتوحة ما بين العملاقين، والجارية في مختلف الساحات الحارة، والأخص منها تلك المتفجرة في مستعمرات الغرب الأوروبي القديم. لم يكن أحد من كبار مفكري العصر آنذاك يتوقع مصيراً آخر للأرض، متجاوزاً لخطأ الضربة القاضية الذي قد يرتكبه أحد القطبين في حق عدوه القطب الآخر وفي نفسه معاً. لكن عالم المستعمرات القديم، الذي لم تكن لشعوبه أدنى قيمة مادية أو معنوية في موازين القوى الدولية السائدة، هذا العالم المنسي صعد فجأة إلى خطوط أولى من مسرح تلك الموازين الكلية. لقد انبثق كيان دولاني جديد تحت عنوان : الحياد الإيجابي. كانت هناك ثلاث شخصيات قيادية، رامزة لأكبر ثلاث حضارات أزلية في الشرق، العرب والهند والصين، يطرح هؤلاء إمكانية أن تتمتع الإنسانية بمستقبل آخر لن يكون محتوماً بنهاية الجنس البشري، إنه الشرق المؤتمن على وديعة السلام العالمي منذ بدايات حضاراته الأخلاقية، هو مبدع نظرية الطريق الثالث، ما بين توأمي الكارثة النووية.
إنها ‘حركات التحرر الوطني’ تلك التي انخرطت فيها عشرات الأمم قاطبة من ثلثي سكان المعمورة، هؤلاء جميعاً رفضوا فكرياً وحركياً، حتمية الحرب الباردة وخياراتها التحزبية: إما أن يكون مواطنُ العالم شيوعياً سوفييتياً أو رأسمالياً أمريكياً أو لا يكون أبداً. إنه تحزيب توهمي، أسْطري، مؤسس لديمومة الحرب الباردة، وتحويلها إلى أيديولوجيا أحادية، ظلامية، هادفة إلى تحشيد شعوب العالم أجمع منقسمين، وموزَّعين بين معسكرين متناقضين، لكنهما توأمان مشتركان معاً في تزوير الخير، وتقديس الخطأ المؤسطر المعمّم.
لم يكن "العالم الثالث" ممتلكاً لأية قوة عسكرية منافسة لذخيرة أيٍ من عملاقيْ الساحة الدولية آنذاك، بالأحرى لم يكن نووياً. قنبلته الذرية الوحيدة هي الرهان على منع الحرب والاحتكام فقط إلى ثقافة "التعايش السلمي"، من الأقوياء فيما بينهم، إلى ما بين قبائل البشرية جمعاء. كانت الحرية وحدها هي بمثابة القنبلة النووية الحقيقية التي صنعها تاريخ المرحلة وحاولت عشرات من حركات التحرر أن تصنع وتمتلك كل منها نسخة عنها، تبدعها نضالاتها الوطنية الخاصة بتجاربها الذاتية. قنبلة التحرر هذه أنقذت تاريخ الإنسان من نهايته النووية المحتومة.. ثلاثة زعماء عالميين حقاً أرسوا قواعد التعايش السلمي كبديل عن سياسة بث الرعب، نهرو، عبد الناصر، شو إن لاي، وآخرون أسقطوا شعارية الحرب الباردة، كإيديولوجيا داعمة ومبشرة بأحادية الصدام النهائي، حتى لو كان الحل انعدام الفريقين معاً وبقية العالم وراءهما.
تطورات "العالم الثالث"، وتصاعد تجارب التحرر والاستقلال، عبر محاولات الصح والخطأ ساهمت في تفريغ الكثير من احتقانات المعسكريْن المسيطريْن، فإذا كان الحياد الإيجابي نجح منهجه في انتشال السياسة الدولية من تحت الكابوس النووي، لكن بوصلة الحروب تحولت من نصف الكرة الشمالي إلى نصفها الجنوبي، وكاد نشاطها الدموي ينحصر ما بين جغرافية عربية وأخرى أفريقية. إنها مكافأة العالم المتقدم للعالم المتخلف. فالحياد الإيجابي أنقذ المتقدمين من كارثتهم النووية، لكنه لم يمنع اجتياح أوبئة الاقتتالات الجماعية لأوطانه الجديدة العتيقة، وقد أمست متخبطة دائماً في وعثاء الحريات المستلَبة، والاستقلالات الوطنية المنقوصة، والزائفة، وتلك هي قصة أخرى. ما نود أن نتذكره من هذه الصفحة التاريخية ليس استعادةً لأمجاد أو لأفضال أولئك القادة الأوليين المؤسسين بالأفعال السياسية الكبرى لثقافة التعايش السلمي حتى مابين جبابرة القوة والقهر العالميين. كان بين هؤلاء رجل عربي اسمه جمال عبد الناصر، كأنه انبثق زعيماً عالمياً قبل أن يتوّجه العرب قائداً لنهضتهم الحداثية الصاعدة.
فإذا كان الرجل قد مضى وانطوت معه مرحلته الحدثية، لكنه خلّف وراءَه مثالَه، ليغدو معياراً انطولوجياً لنموذج القائد الزعيم، المستثنى من قاعدة الساسة العاديين.
بعد الزعيم المثال، تتوالى النسخ المستعارة خلال الثلث الأخير من القرن الماضي، سيطرت نماذج الزعامات الفردية على مجمل السلطات العربية الحاكمة أو الساعية إلى الحكم. لم تتعلم من الزعيم الأول سوى أحادية الأمر والنهي. وفي مصر تحديداً، البلد العربي الأكبر، وحيثما ترعرعت التجربة الناصرية كأهم محاولة عصرية، ما بعد محمد علي، في تحديث نهضة الاستقلال العربي، في القاهرة التي تمارس وظيفة العاصمة المركزية للتحولات القومية الشاملة، جرت أخبث "مؤامرة" حقيقية، هادفة إلى اجتثاث حركة التحرر العربي من جذوره السياسية والإنسانية، فما دام شخص الزعيم قد اختفى فينبغي القضاء على مثاله، الباقي من بعده. وهكذا كان، فبدلاً من مثالية التقدم سوف تسيطر ديكتاتورية الانحلال في مختلف فعالياته من قمة السلطة وأتباعها حتى أدنى ذيولها وحواشيها فلن يتبقى من رموز الزعامة التاريخية المنصرمة سوى حالة السيادة الطوعية التي سوف يقلبها الوَرَثةُ الغادرون إلى إيديولوجيا عبادة فوقية جاهزة لإنتاج مركب الاستبداد/الفساد، وحماية آلياته التدميرية تحت لفظيات الماضي المدفون إلى غير رجعة.
أربعة، خمسة عقود، نهضَ خلالها العالم الثالث بقوى هائلة، وبعضها الآخر التفّ على أعناقها أفعوانُ الاستعمار العائد المتجدد، أجهضها من قوى الحرية، وأتخمها بموبقات الفساد والصراعات الفئوية العبثية. واليوم، الهند والصين تتقاسمان زعامة قارة آسيا، والصين وحدها تضع الغرب كله، بقارتيه: أوروبا وأمريكا، في الكفة المتراقصة إزاء الكفة الراجحة للدول الصاعدة، في ميزان التفوق العالمي.
العرب وحدهم كادوا أن يضيّعوا مختلف الدروب نحو مستقبلهم، وهم الموعودون بأبديته منذ الأزل العريق. فقد كانت يقظتهم، أواسط الخمسينيات وأوائل الستينيات، وبرفقة عمالقة آسيا من الهند إلى الصين وحتى أندونيسيا، كانت بمثابة انبعاثٍ لإنسانية جديدة. كان ‘عالمهم الثالث’ إشارةَ إنقاذٍ للمعمورة، محاصرةً وراء أرهب استعصاء وجودي وصلت إليه مدنية الغرب بجناحيها الشيوعي والرأسمالي: كان الجناحان يتوعّدان بعضهما بالدمار النووي.
انسانية التحرر الوطني وحركاته الرائدة منذ نهرو وعبد الناصر وسوكارتو وماوتسي تونغ، بشرت التاريخ بمولد مدنية أخرى للحرية وللتعايش السلمي. مختلفة عن مدنية النهايات الذرية الكارثية التي يحاصر الغرب نفسه بين أنيابها. كان ذلك منذ عشرات السنوات وما زال الوعد قائماً والتبشير العربي والآسيوي يقدم براهينه اليومية، وإن شابتها مهالك كثيرة، لا يزال بعض الغرب الاستعماري هو رائدها الرئيسي، وإنْ إلى حين.
إنها مصر التي تتألم، توشك أن تتعافى، وهي اليوم، قبل أن تكون باحثة عن زعيمها التاريخي الجديد، فإنها منهمكة في اجتراح زعامتها الذاتية الوطنية تأسيساً تجديدياً لزعامتها القومية، وتأهيلاً لاستعادة دورها في إرساء المدنية المختلفة لإنسانية جديرة بالتعايش السلمي بين قبائلها جمعاء، رغماً عن الذئاب المتربصة بها في كل منعطف.
19/1/2014