بعد نسيان الوحدة هل سننسى الحرية؟

مطاع صفدي - مفكر عربي مقيم في باريس

دأب قطاع واسع من نخبة المثقفين العرب على الشكوى مما يسمونه بحال الفراغ السياسي والعقائدي الذي خيم على أجواء الحياة العامة والقومية لمختلف الأقطار العربية.

وكان البعض من هؤلاء قد اعتبر أن هذا الفراغ كان رداً طبيعياً وتاريخانياً على مسلسل الهزائم السياسية الكبرى ذات الطابع القومي، مبتدئاً من تاريخ توقيع مصر على معاهدة كمب دايفيد مع اسرائيل، ومكتملاً في توقيع الثورة الفلسطينية معاهدة أوسلو مع اسرائيل كذلك. فما حدث في هذه الحقبة من الثلث الأخير للقرن العشرين كان أشبه بعصر تصفية منظمة لعوامل أهم حراك نهضوي عرفه العرب في تاريخهم المعاصر. كانت معظم أقطار المنطقة خلاله تعيش على إيقاع واحد، متكامل ما بين أحداثها العامة اليومية، وتردداتها في محافلها الإجتماعية والشعبية، وذلك وفق مواقف تضامن فوري مع الإيجابي منها، أو الاستنكار والرفض ضد ما هو سلبي منها.

كان العرب في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وحدويين في بنيتهم العقلية والإنسانية، موحدين طبيعياً وتلقائياً قبل أي مشروع في الوحدة السياسية أو بعده. كل شيء في مظاهر حياة الكل والأفراد، وفي كل بقعة جغرافية من وطنهم الأكبر، إنما يدل على التماثل بين الجميع في القلب واللسان، كان بعض الاختلاف في اللهجات والعادات والقيم هو من نوع التنوع في الأعراض على جوهر الهوية الواحدة.

حين ارتفع صوت عبد الناصر من شرفة بيت الضيافة في دمشق معلناً قيام الوحدة العربية الجديدة (شباط / فبراير 1958) لم يكن صوته ذاك ليعلن فقط قيام الجمهورية العربية المتحدة ما بين مصر والشام، كان منادياً على العرب أن يأتوا جميعاً إلى وحدتهم التي تحققت نواتها السياسية. إنه ينادي على الوحدة الحية في نفوس معظم العرب، أن تخرج من الصدور أخيراً، كيما تنسف حدودَ واقعٍ انفصالي دخيل: أن تجعل الجغرافية السياسية للعرب مطابقة لتاريخ حضارتهم، المغدورة بسموم بعض أبنائها العاقّين قبل أعدائها. فكان أن هرولت عشرات الألوف، ولو استطاعوا لنزلت شعوب العرب جميعاً إلى شوارع مدنها وواحات صحاريها. كان ذلك هو الربيع العربي حقاً مقترناً بربيع ذلك العام الفاصل (1958).

فمن عاصر تلك الفترة الذهبية الخالصة، وما يزال البعض منهم حياً اليوم، فقد يذكر هذا الجيل كيف أن جموع الزاحفين من بلاد الشام كلها، من لبنان وفلسطين والأردن، ومن العراق، كانوا يغطون الساحات ونهايات الشوارع المؤدية إلى قصر وبيت الضيافة حيثما عبد الناصر منتصباً في الشرفة خطيباً نهاراً وليلاً مردداً نداءه الدائم: أيها العرب في كل مكان.. كأنه كان يطالبهم جميعاً أن الوحدة قد قامت، وأن أمانة التاريخ هذه رُدَّت إليكم، فأنتم المسؤولون عنها لتبقى لكم ولأبنائكم من بعدكم.

هذه الأيام السعيدة التي عاشتها جماهير الشام محتفلة بمهرجان الولادة لأول وحدة عربية يشهدها العصر الحاضر منذ أكثر من ألف سنة، سجلت فرحاً جماهيرياً عارماً وشاملاً استوعبته شعوب الأمة جميعها كحدث وجودي كياني، وليس سياسياً فحسب.

كما لو أن (الأمة) خرجت دفعة واحدة من حال فراغ العدم إلى حال استحقاق الوجود المشروع في عيون أبنائها، وأجيالها الجديدة الصاعدة خصوصاً. ولقد أدركت اسرائيل فورياً ماذا تعني هذه الوحدة، إذ صرّح رئيس وزرائها آنذاك أن "اسرائيل" وقعت بين فكيّ الكماشة. فأن تتحد سوريا مع مصر هذا يعني أن جناحي الجغرافية العربية شمالاً وجنوباً قد تواصلا وتكاملا، بحيث لن يتبقَّى للدخيل ثمة ثغرة ما يندسّ من خلالها إلى العمق القومي.

إذا أردنا أن نفهم موضوعياً ماذا حدث بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة، وبعد إسقاطها عن عمر أقل من ثلاث سنوات.

علينا أن نستعيد ذاكرة النكبات المتناسلة من بعضها التي اجتاحت أقطار المشرق طيلة العقود الخمسة المنصرمة. فلو تصورنا أن هذه الجمهورية الوحدوية لو استطاعت أن تستوعب بعقلانية ووعي علمي اندفاعات أقطار المشرق نحو الانضمام إلى بيتها. لو أن ثورة العراق في صيف عام الوحدة الأول، لم تنحرف بسرعة عجيبة نحو نوع من حرب أهلية حزبية بين القوميين والشيوعيين، ولو لم تسقط انتفاضة لبنان الوطنية الى حرب طائفية (1958-1959)، وحتى يتطلب الأمر نزول البحرية الأمريكية إلى ساحل بيروت، ولو لم يعد الاحتلال العسكري البريطاني إلى الأردن ليمنع انهيار العرش الهاشمي في عمان كما انهار قريبه في بغداد، نقول لو لم يتحقق على عجل إحباطُ ثورات وانتفاضات المشرق الوحدوية هذه لما أمكن محاصرة الجمهورية العربية المتحدة، وإطباق الخناق على إقليمها الشمالي الذي هو سوريا، وبالتالي نقل هذا الإحباط إلى عمق هذا الإقليم نفسه تمهيداً لانفصاله. وهو ما حدث سريعاً خلال سنتين.

هكذا قد يمكن القول أن نهضة الاستقلال العربي لما بعد الحرب العالمية الثانية شرعت في خسارة النصر الافتتاحي في معركة الإطاحة بخارطة "سايكس بيكو" الُممزّقة للجناح المشرقي بتمامه. فلم يكن الفوز بمبدأ السيادة القومية سهلَ التحقيق، ما بعد أن ساعدت فورة الوحدة على تحرر معظم بلاد العرب من استعمار الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، غير أن المد القومي لم يتح له أن يفرز نظامه الدولاني الواحد. وكان لسقوط التجربة الوحدوية الأولى السريع أثره المباشر في انتعاش النزعات القطرية، فانتقلت محركات الصراع من مستواها الأفقي القومي، لتنقلب إلى محاور عمودية داخل كل قطر على حدة، ما بين قمته وقواعده.

فانسحبت الجماهير الكبيرة تدريجياً من ساحات العمل العام، مما سهَّل على الحزبيات الجديدة القديمة تغييبَ حضورها (الجماهير) المباشر في أوقات الأزمات والتحولات المفصلية؛ وبذلك أمست الأزمة التالية على فجر الوحدة المبدد محكومةً من جهة بهواجس العودة إلى ذلك الفجر المفقود، ومن جهة أخرى اكتسب (الانفصال) امتداداً ثقافياً سياسياً ومصلحياً كأمر واقع، وليس كمرض عارض.

وخلال هذا الثلث الأخير من القرن الماضي كان الجهد المركزي لمختلف أنظمة الحكم لأقطار التجزئة المستدامة.

منصباً على جعل أقطارها كيانات نهائية، وليست مجرد أقاليم في وطن واحد أكبر منها جميعاً.

لم يكن إنتاج مركبات الاستبداد/الفساد كأنظمة حكم ودول، من صدف تاريخ أعمى، يسير خبط عشواء على غير هدى، بل كأنه كان عليه أن يقوم بما يشبه مهمة قدرية مطلقة، كان عليه أن يمؤسّس الانفصال، فالانقلابات العسكرية والفئوية والانقلابات الأخرى عليها، والمجازر التي تُوقعها ببعضها وأشكال الطغيان والاضطهاد والاستغلال التي توقعها بشعوبها، كانت هي الأدوات الممكنة وحدها لقيام حياة سياسية ما غائمة عائمة ما فوق إرادات البشر، وساحقة ماحقة لأبسط نوازع الكرامة الإنسانية، بحيث لم يعد الانفصال بمعناه الدولاني القائم هو مرض أمراض النهضة المغدورة، صار الإنسان العربي نفسه وهو الذي كان مناطاً به يوماً أن ينتفض على هذه الأمراض؛ وأن يكون هو الطبيب المعالج والمكافح لشرورها، لكنه أمسى هو مريضنا الأول… ما عدا حالة وحيدة من أحواله، وهي أنه لا يزال يملك بقية حرية جعلته أخيراً منتفضاً، مطاِلباً باستردادها كاملة غير منقوصة، ولا منهوبة من قبل لصوص الأمم والدول والحضارات.

فابتدأت بذلك صفحات "الربيع العربي" الجديد، وكانت بيضاء مشرقة، ثم ما لبثت أن تلقّت صفعات الدم والوحل. فهل نقول: ما أشبه اليوم بالأمس عندما انبلجت شمس الحرية قبل خمسة عقود ونيف ثم خبت أنوارها وراء ظلامات عصر مديد من الاستبداد والطغيان.

وها هو الربيع يقذفنا بمواسم أزهاره، فتتلقفها أيد قذرة تحولها إلى أشواك موجهة إلى صدور شبابنا الصاعد، وإلى أدمغته. فهل سنبقى ضحايا لأقدار عمياء أم أننا سنعرف في النهاية كيف يمكن أن نميز الأشرار قبل الأخيار، نكشف القاتل قبل أن يقتل، ولو لمرة واحدة على الأقل.

فقد نكون خسرنا معركة الوحدة، ورديفتها الاشتراكية، لكن خسارتنا لمعركة الحرية اليوم تعني أننا أضعنا عصر الديمقراطية الموعودة، والواعدة باسترداد النهضة لكل أهدافها الماضية المغدورة.

2/3/2014