الغرب عاجز عن إسقاط الحرب في سوريا؟

مطاع صفدي - مفكر عربي مقيم في باريس

من المسلم به تاريخياً على الأقل أن الحروب تنتهي غالباً إلى مؤتمرات، بما فيها الثورات الكبرى والحروب الأهلية. لكن كما يبدو حتى الآن أن أصحاب مؤتمر جنيف الثاني، أكثرهم، ليسوا مصممين مسبقاً على وضع حد للمقتلة السورية. فالمهندسان الرئيسيان الأمريكي والروسي، متفقان على الحد الأدنى، جعلا المؤتمر غاية في ذاته، وليس جسراً سريعاً ومؤدياً إلى أي شكل من هدنة أو سلام مؤقت أو شكلي. وقد يراه بعض المراقبين أنه لن يكون أكثر من تظاهرة إعلامية، وإن حشدت لها كل وسائل الفخامة والتبجيل الرسمية والشعبوية معاً، ذلك أن المجتمع الدولي بات محرجاً أمام الرأي العام لدى شعوبه نفسها. لم يعد يمكن التغطية على الفظاعات اليومية تحت شتى الكليشهات المعهودة من فنون المواربة المعرفية أو الدعاوية. فالتقارير التي تنشرها هيئات حقوق الإنسان وأشباهها بين يوم وآخر عن الجرائم المروعة التي يرتكبها نظام حاكم في حق شعبه الأعزل، أمست تصدم ضمائر الناس العاديين في كل مكان. فلِمَ لا يفعل ساستُهم شيئاً؟وإلى متى يسرح ويمرح القتلة ومجانين الدم، وحكومات العالم مجمدة في مواقف التفرج أو التجاهل أو التخاذل وربما التآمر.

في الأخير صدرت الإرادة العليا بعقد المؤتمر. فرضت على أفرقاء الأزمة وأصدقائهم أن يلبوا الدعوة، وأن يجتمعوا، يتفاوضوا. جاء الجميع إلى جنيف، إلى حيثما يُراد للأعداء أن يتلبّسوا أدوارَ الشركاء. أن يستبدلوا الرصاص والمدافع بلغة الأفكار والمفاهيم والمواقف المسؤولة ـ هذا إن استطاعوا، أن ينتقلوا من ما وراء القلاع أو المتاريس لكي يجلسوا قُبالة بعضهم في صالات الفنادق المترفة. هذا (اللقاء) ليس خياراً لا لأرباب نظام الأسد، ولا لممثلي المعارضة أو الثوار. كان يمكن لهذين الفريقين أن يُتركا غارقين في مصارعهما المتبادلة، من دون أن ينتصر أحدهما على الآخر يوماً ما قريباً. وحتى وهما مجتمعان اليوم فإن حربهما مستمرة في كل ميادين البلد المفجوع. والقتل ما زال هو صاحب كلمة الفصل. والبادئ في فصوله الرهيبة. كما يعرف القاصي والداني، منذ الأمس وإلى الغد، هو القابض على عُنُق الدولة، وهو المسَخِّر لأدواتها التدميرية كيما تكون سلاحاً يدافع عن مصالح بقائه، وهو الأوحد الذي صار عليه، وهو في غابة الوحوش، أن يظل الحيوانَ الأوحش بينهم. هل يمكن لمؤتمر (جنيف 2) أن يحدث ثمة فارقاً في هذه اللوحة؟

هذه هي القضية. وقد تعّدت حدود التفاؤل أو التشاؤم لتستقر فحسب حول نقطة مركزية هي مطلب الغالبية العظمى من الشعب المقتول والمهجر والمعتقل والمعاق والمتسول على أبواب السفارات في عواصم الجوار. ماذا يريد هؤلاء؟ الشعار القديم: "الشعب يريد إسقاط النظام" أصبح هكذا: الشعب يريد إسقاط الحرب. ليس هذا النداء الثاني ليلغي الأول، بل ليحققه، يمنحه كامل واقعيته. هل يمكن منع القتل من دون القبض على القاتل أو إلغائه. لكن قد يُعترض على هذه المعادلة ليس من حيث الشك في صدقيتها المنطقية، بل في إمكانية تحقيقها على أرض التجربة. فإن ثلاث سنوات من عجز هذه المقتلة الجماعية للبشر والحجر لم تقدم سوى البراهين القاطعة على هذه الحكمة السوداء القاتلة: إذا ما فتحت أبواب جهنم فليس ثمة أحد في خارجها يتطوع في إغلاق أبوابها.

لكن بعض أسياد المجتمع الدولي ربما قرر التطوع في هذه المهمة أخيراً. لن يكون هنا تطوعاً خالياً من الشبهات. وأولّها ولا شك أن معظم هؤلاء المتطوعين المنقذين كانوا ولا زالوا ضالعين في تنظيم حرائق الداخل. ليس في جهنم ضحاياها وحدهم، يشاركهم زبانيتها شاؤوا أو أبوا. فإن لهم جهنمهم كذلك، تلك التي يرد ذكرها في أساطير الأولين والآخرين، ليسوا هم واقدين نيرانَها كلما خبت، فحسب، بل هم كذلك حراسٌ على أبوابها. يمنعون أهلها من مبارحتها إلا من فقد بيته وعمله، وتدّمر حيه أو مدينته. وأضاع معظم أهله وإخوانه تحت الأنقاض. أو تشّرد في الفيافي والمتاهات. حراس أبواب جهنم يغلقونها على أهل الداخل، ويقنّون فتحَها أمام زوار الخارج. لذلك فالبلد المحترق هو جزيرة من نار ودخان معزولة الحدود. مفاتيح أبوابها، حلول مشاكلها باتت في جيوب كل الغرباء. ما يريد أن يقوله مُلاّك جنيف وقصورها في أعالي الثلوج الأوروبية، هو أن حرائق الشرق ليس لها إلا وقودها من ملايين البشر الفقراء البسطاء، لا يملكون حتى رمادهم، يورثونه لأبنائهم وأحفادهم. فقد يسرقه بعض الزبانية، يسبكون منه تماثيل متحفية، ستكون شاهدة صماء بكماء على إنجازات فضائح السياسة الدولية.

العنوان الرئيسي لهذه المقتلة المتحفية الرعناء هو على الشكل التالي: في زمن زعيمي العالم أوباما وبوتن: بدلاً من أن تعقد دورة ثانية لتقليد (محكمة نورمبورغ) لمجرمي حرب النازية الهتلرية المنهزمة، فقد أمر هذان الزعيمان الاتيان بمجرمي حرب الإبادة الإنسانية المعاصرة، إلى أجمل وأرقى بلد أوروبي، لكي يتحاوروا مع ممثلي ثوار الفقراء، المنذورين للقتل اليومي هم ومن معهم ممن يسمون بالحاضنات الأهلية. بل قد يبدو الأمر أخطر من كل ذلك. فلقد جدد النظام استراتيجيته التقليدية إزاءَ مجتمع سورية. قبل الثورة كان القمع المطلق هو حاكم التدابير العامة جميعها السياسية والثقافية والاقتصادية. خلال الثورة يتحول مبدأ القمع إلى مبدأ الإبادة الجماعية بحجة الحرب ضد مسلحي الثوار، يصار إلى تدمير الأحياء والقرى والمدن التي تحتضن المقاتلين - بإرادتها أو بغيرها، وقد أمسى اسمهم إرهابيين.

إذن، فقد عمد سادة المجتمع الدولي إلى عقد مؤتمر للسلام في جنيف، بدلاً من إقامة محاكم العدل العالمية لمعاقبة قتلة الشعوب. في حين أن كثيراً من خبراء السياسة في أوروبا باتوا يرفضون حفلات التكاذب السياسوية الممسرَحة. المثقفون النزيهون منهم يعتقدون جازمين أن الحرب في سورية لما تنته بعد. وأن المؤتمر سابق لأوانه، لن يكون سوى ميدان آخر للصراع الكلامي. وأن أقصى ما قد يتأمله بعض المعذبين في مسالخ هذه الحرب البائسة هو التوصل إلى نوع من التهدئة الهشة والظاهرية. فإذا كانت الحرب لم تؤد حتى اليوم إلى نتائج حاسمة لأحد فريقيْ الصراع، فإن السياسة، أو دبلوماسية الغرب الجديدة، لن تستطيع أن تفعل شيئاً، سوى ابتكار خط للتفاوض العقيم موازياً لخط الصراع على الأرض. أي أن الحرب الدموية سوف تُضاعف بحرب المناورات اللفظوية. وفي هذه الحالة سوف يعم الاختلاط والتشويش بين معارك الميادين، وصفقات الغرف المغلقة.

مثلما فُرض على شعار: إسقاط النظام، أن يتعثر طيلة ثلاث سنوات، مخلفاً وراءه في كل واقعة حصاداً مروعاً في البشر والحجر، فمن المنتظر لشعار: الشعب يريد إسقاط الحرب، أن يُكتب له مستقبل آخر مماثل، حافل بكوارث الموت ممتزجةً دائماً بمهازل، تناقضات السياسة الدولية، و’مؤامراتها’. فاللحظة الراهنة من تطورات الحدث العربي في معظم أقطاره الرئيسية والفاعلة، لا تنذر إلا بمسلسلات متتابعة من صنوف الأزمات المصيرية، القديمة والمستجدة. سوريا أصبحت، كأنها مركب ضائع مخلّع، في بحر هائج حولها، أكثر أو أقل هيجاناً منها.ما يعني أن حلولها القطرية سوف تنتظر طويلاً ارتدادات الإقليم المضطرب حولها. أما الغرب، بأطرافه الثلاثة أمريكا، أوروبا، والروسيا، فإن أهم خبرائه يقرون أنه لم يعد ممسكاً بدفة الحسم، جملة وتفصيلاً أضحى، جميع أركانه، أقرب إلى وضع الانفعال بمفاجآت الشرق دون القدرة الجدية على التدخل في حاضرها أو مستقبلها، فقد تحول أركان هؤلاء إلى زمرة أعضاء حدد في نادي مآزق الشرق ومتاهاته.

مؤتمر جنيف لسلام سورية، ليس سوى المثال الدولي الآخير عما يعنيه حقاً واقع الغربنة الراهنة. فلم يكن لهذا المؤتمر أن يعقد بسبب عجز الفريقين المتقاتلين عن تحقيق الضربة القاضية فحسب، بل لعل الدافع التاريخي الأهم هو أن الغرب نفسه بفريقيه الرئيسيين، الروسي والأمريكي، كان هو العاجز الأكبر عن تحقيق الحسم النهائي لحساب النظام، أو لمصلحة الثورة.

غير أنه، حتى تتم هذه المسْرحَة الدبلوماسية، فهذا (المجتمع الدولي) يعرف بكل بساطة أن تركيبة المؤتمر لن تكون مؤهلة كذلك مرشحة لفرض شعار إسقاط الحرب على ميادين رجاله، ليس نتيجة لدورة المؤتمر الحالية، ولا لدورات قادمة، كل ذلك لسبب واحد، وهو أن سادة الغرب، ليس لأنهم لم يتخذوا بعد قراراً في هذا الشأن، بل يعرفون أنهم، حتى لو اتخذوه. حتى لو قرروا حقاً إسقاط الحرب في سورية، فلن يكونوا قادرين على تنفيذه اليوم، وربما غداً، في علم الغيب، ألم يتحولوا إلى (شرقيين) أخيراً.!

26/1/2014