ماذا يعني حرمان الثورة من مجتمعها المدني؟

مطاع صفدي - مفكر عربي مقيم في باريس

المراقب العربي لأحداث وطنه الكبير، لا يمكن في شعوره أن يعزل ظاهرة معينة في قطر عن أشباهها، أو أضادها في قطر أو أقطار أخرى. وفي هذا الخضم العارم من صنوف الاضطرابات، تكاد تتوحد مجتمعات الوطن في خارطة من الفعل وردّ الفعل عابرة للحدود السياسية ما بين الدول. هنالك مصطلح المشرق الذي عودنا تاريخنا المعاصر على اعتباره مطبخَ المتغيرات الحدية لذاته ولمحيطه القومي الأوسع.

غير أنه منذ انبثاق الحدث الربيعي، كان الجناح الغربي للوطن الأكبر هو السبّاق إلى تفجير منطلقاته الأولى. خلال أسابيع أو أشهر قليلة تهاوت ثلاث صنميات حاكمة، كانت من أعتى نماذج الاستبداد بنوعيه القروسطي والحداثوي الفاشي (تونس، مصر، ليبيا)، غير أن تونس كانت هي الرائدة، ليس في قدح شرارة الثورة الأولى فحسب، وليس في تحقيق النصر السريع وإسقاط قمة الاستبداد والفساد، بل كانت ريادةُ الثورة التونسية متجوّهرةً حول اكتشاف تاريخي للدور الثوري الذي يمكن أن يمارسه المجتمع المدني نفسه، إنها المهمة الفذة التي كان يُظن ويُعتقد أن المجتمع المدني لا تؤهله طبيعته أو تركيبته الطبقية والفكرية لارتكاب مغامرات العنف الجماعي الذي يتطلبه الفعل الثوري. ومع ذلك يمكن الحكم بنزاهة أن ثورات العرب المعاصرة كان نجاحها أو فشلها متوقفاً إلى حد كبير على حصة المجتمع المدني من المساهمة في وقائعها، ومن ثم في حراسة نموها وأهدافها. فلو لم تتشكل طلائع الانتفاضات الجماهيرية في العصر الربيعي الراهن، من النُخب الشبابية الواعية، ما كان لهذه الانتفاضات أن تتحول إلى ثورات شاملة وذات ديمومة ومستقبل تتطور نحوه.

غير أن المشكلة هي أن المجتمع المدني لا يمتلك فورياً انتظاماً موضوعياً، لكن هو الباعث على تشكيل المنظمات التي سوف تتقاسم مساحات من مجالاته العامة، وتتنافس فيما بينها على ادعاء حصرية تمثيل بعضها لمرجعيته الأصلية. وفي معترك المنافسة هذه قد تقع الثورة في أفخاخ الفئويات (الدينية والطبقية) التي تقتنصها بين منعطف حدثي وآخر. فينسحب المجتمع المدني إلى عمق اللوحة العامة، مخلياً ساحاته لقوى أخرى سوف توصف بقوى الأمر الواقع. هذه الجدلية السلبية إجمالاً سيطرت على مصطلح المراحل الانتقالية التي أعقبت سقوط أصنام الديكتاتوريات السابقة، وقد غرقت في وعثائها الثوراتُ الربيعية الثلاث أو الأربع الأولى، ولكن يبدو أن تونس، مثلما كانت سبّاقة في ريادة الانتفاضات العربية، فإنها قد تكون متقدمة كذلك في استعادة الريادة لأيدي مجتمعها المدني. وخلال هذه المرحلة الانتقالية المديدة مارست صنوف (الفئويات) كلَّ الأدوار المعروفة عن الثورة المضادة، كانت المفاجأة المذهلة عشية فرار الديكتاتور، عندما اختطفت فئة الإسلاميين المنظمين في حزب (النهضة) كراسي الحكم من عملاء النظام القديم. هكذا انخرطت تونس دولة وشعباً في أعنف صراع عرفه تاريخها السياسي والاجتماعي الحديث. كانت معركة ثقافية حضارية بامتياز قلَّ نظيرُها في مختلف ميادين التغيير الثوري العربي سابقاً ولاحقاً. ما أمكن الاعتراف من قبل المراقبين عرباً وأجانب بأن المجتمع المدني لم يعد مجرد شعار تتداوله الأندية الثقافوية المترفة. صار هو الحزب الأكبر والأشمل الذي تنتمي إليه مختلف الفعاليات الحركية الشبابية والتنويرية. له حضوراته الحاسمة في شتى ميادين الصراع المفتوحة ما بين قوى الماضي وقوى المستقبل، ما يمكن قوله أن الجماهير الثائرة هناك، ربما لم تعد عرضة لعواصف الفوضى والاستغلال تتخاطفها من كل جانب، لعلها صار لها مجتمعُها المدني الذي يرعاها ويقودها ويحرسها، ويخوض بها ومعها كلَّ معارك الحسم الثوري والحضاري في آن واحد.

الشباب الديمقراطيون، ورُوادُهم وأستاذتهم من جيل أو جيلين، هؤلاء خاضوا جميعاً كل المعارك السياسية والثقافية التي حفلت بها المرحلة الانتقالية، المتمادية ما بين الديكتاتورية المنهارة من أعلى قمم الحكم، وبدايات الطريق نحو تجسيد الحرية في التنظيم المؤسسي، وصولاً إلى إقرار دستور الجمهورية الديمقراطية القادمة. إنه وثيقة البيان الأول لميلاد التحول الثوري الربيعي في صفحته الثانية الإيجابية: إنها تونس الخضراء حقاً التي افتتحت مجدداً عصر الربيع العربي بصفحتيْه السلبية والإيجابية معاً. فما بين الصفحتين هاتين لم تخض جماهير تونس معارك عبثية وبدون طائل مع أصناف الأضداد، على الرغم من شراسة النوايا والأفخاخ المنصوبة وراء كل منعطف. فمن طبيعة المرحلة الانتقالية أنها كاشفة عن أعمق معيقات التقدم، عن الأمراض والعقد الدهرية والمستجدة للمجتمع القديم. إنها تفرض على قوى التغيير امتحانها الأصعب. لن يكون عليها فحسب الانتصار على المقاومات والانحرافات القافزة إلى دروبها من كل جانب، بل عليها في الوقت ذاته أن تبتكر، وتجدد أدوات وموازين الفرز ما بين قواها ذاتها.

غير أن المحصلة لكل هذا الزلزال المتناوب سيكون لها معيار واحد، هو مدى قدرة جماهير الثورة على إعادة انتظامها كمجتمع مدني منتج لمؤسساته الدستورية الموضوعية. ذلك هو التحدي البنيوي التاريخي الذي يواجه ثورات السنة الأولى من العصر الربيعي العربي.

وكانت تونس وحدها حتى اليوم الفائزة والقافزة على درجات سُلَّمه العالي، واحدةً بعد الأخرى. بينما كانت جارتها ليبيا، تعاني أصلاً من عسر ولادة طبيعية وسريعة لمجتمعها المدني بعد أن نجح نظام القذافي في استئصال تيارات التقدم الذاتي لمجتمع القبائل والأصقاع الصحراوية المتباعدة. فحين قرر الغرب دعم طلائع الثورة الإقليمية المندلعة في بنغازي ومحيطها البدوي، سرعان ما انحدرت طبيعة الثورة من الصيغة الجماهيرية الشاملة إلى الشكل التقليدي للـ (مغازي) القبائلية. فالانقضاض ـ الثوري ـ على طرابلس كان غزواً لخليط من القبائل موجهاً ضد قبيلة القذافي، قبل سقوط الديكتاتور الانكشاري لم يكن رجال العشائر مالكين جميعاً لأسلحة كافية. بعد السقوط فقد استولى هؤلاء على مخازن الدولة القذافية، تخاطفوا الكميات الهائلة من أعدادها وأنواعها. تساقطت الثورة إلى أتعس نماذج العنف الصحراوي التقليدي. وتشردت زُمَر المعارضات المدنية ما بين جبهات أصولها القبلية. هكذا كادت ثورة ليبيا أن تشكل يومياتُها الفوضوية الأمثلةَ الحية عن نقائض المسيرة التونسية.

غير أن الساحة العظمى لجدلية النشأة المدنية بجولاتها المفصلية الحادة، هي مصر الثورة التي ترقى جميع أحداثها إلى مصاف التحولات التاريخية لمشروع النهضة العربية الحداثية، في صفحتيه الإيجابية والسلبية. في هذا البلد الفريد بأصالته الإنسانية والحضارية، لم تغب معظم خصائص المدنية، حتى في ظل أقسى ظروفه من أصناف التخلف المعاشي والثقافي، والطغيان السياسي. لكن في اللحظة الراهنة، في عصر الثورة الفريدة على سلالة الطغيان الفرعوني كما كانت متجلية في ذروة مركب الاستبداد/الفساد، فإن مدنية مصر مصممة هذه المرة ليس على الإطاحة بهذه الذروة وحدها، لن تكون نهاية أو خاتمة هذه السلالة بالضربة القاضية على أصنافها الأخيرة، وقد تم انجازها، بل تبقَّت المهمةُ الأشرس، وهي متابعة أصول الطغيان القومي في جذوره التحتية العميقة. ذلك أن الأفخاخ المنصوبة في دروب (المرحلة الانتقالية). والارتدادات الجماهيرية عليها بعشرات ملايينها، قد برهنت أن الحزب الثوري الأكبر، هي هذه الملايين بالذات.

يبقى أن المجتمع المدني هو التعبير المؤسسي عن هذا الحزب الكلي. لكن ثمة مساحة ثقافية وسياسية بين حزب الجماهير الأكبر هذا، وبين مجتمعه المدني، لن يتم عبورها إلا عندما تحين ساعة إقامة الدولة الديمقراطية المنشودة، فالمعادلة ليست كاملة البنود والشروط بعد. معارك الحرية لها بدايات، وليست لها نهايات. تلك هي حكمة تاريخية قديمة وجديدة دائماً.

سوف يظل "الربيع العربي" مشرداً ما بين ادعياء قياداته الحزبية ووقائع شعوبهم المتناقضة، باحثاً عن قاعدته الحركية المشروعة، التي لن توفرها له، إلا أركيولوجيا تكوينية وفعالة لمصطلح المجتمع المدني. ولقد أدرك المستبدون، وأعوانهم المحليون والدوليون. هذه الحقيقة المفصلية الحاسمة. فكانت الثورة السورية هي الضحية المركزية لحملات الهجوم المضاد على مكوناتها الذاتية، وليس فقط ضد نشاطاتها الميدانية. ولقد تخصص النظام السوري بحربه الضروس منذ بداية تسلطه على البلاد والعباد قبل أربعة عقود ونيف، ضد كل تجليات المجتمع المدني ومؤسساته الذاتية والموضوعية. وصولاً إلى مرحلة تدمير المدن وصروح التراث مقترناً عنده بقتل المجاميع الشعبية من كل طبقة، وتهجير سكان المدن والأرياف. تفريغ البلاد الشامية من وجودها الإنساني والعمراني.

خلاصة القول إن حرمان كل ثورة عربية قطرية من قاعدتها الحيوية الواعية، من مجتمعها المدني، هو المغزى المحوري لحملات وأشكال الثورة المضادة محلياً ودولياً، تلك التي تُشن على التجارب الثورية لإحباطها وهي في طور النشوء والمحاولة والخطأ. فالتجريف الأسدي لحضارة سوريا وشعبها بحجة معاقبة المتمردين على سلطته، إنما هو تطوير مادي دموي رهيب لمسيرة القمع الشمولي. كما كان خطّط لها ومارسها مؤسس النظام منذ أكثر من أربعين عاماً. أما الابن البارّ بوالده. فلن يكمل القمع السياسي بالقتل المادي للبشر والحجر معاً، بل بابتكار استراتيجية شمولية جديدة، عنوانها: تجريف كل آخر. سواء كان الآخر شعباً كاملاً أو دولة قائمة، أو حضارة قائمة منذ آلاف السنين.

إنها الحرب الاستعمارية المطلقة التي تراهن في النهاية على إلغاء الأمة العربية ومدنيتها معها.

4/2/2014