عندما دقت ساعة منتصف الليل بين العبودية والثورة
مطاع صفدي - مفكر عربي مقيم في باريس
هل هناك فارق مادي أو طقسي بين اليوم الأخير من السنة الآفلة واليوم الأول من السنة الجديدة. ومع ذلك فقد احتفلت أمم الأرض قاطبة بهذه النقلة العادية طبيعياً، لعلّها تغدو مغايرةً لمثيلاتها. فإن هذه المليارات من المحتفلين بها قد حولوها إلى ذلك العيد الوحيد الذي تشترك فيه جغرافية عالمية، متخطيةً أجناسَ البشر، وأديانهم، وسياساتهم، وثقافاتهم. ما الذي يجعل كل هؤلاء المختلفين في شتى أمورهم الحياتية يرتقبون ساعة منتصف الليل تدق معلنة عن انقضاء عام من أعمار أجيالهم جميعاً، وانبثاق عام آخر لا يعرفون عنه سوى أنه زمن آت لا محالة.
التقاء إنسانية المعمورة على اختلاف ألوانها ومشاربها ونزعاتها، لليلة فريدة، وبانتظار ساعة معينة، هذا ينبئ في حده الأدنى عن تكون نوع من مجتمع أُممي، وقد شرع في ابتكار تقاليده الرمزية الجامعة، وذلك بدءاً من الاتفاق العفوي على دقيقة فرح واحدة لكل الناس، إذ يجدون أنفسهم فجأة وقد أصبحوا بشراً أحراراً، يغنون، يرقصون، ويقبّل بعضهم بعضاً. إنها فرحة الدقيقة الواحدة الفاصلة، كأنها تريد أن تذكّر البعض أن الفرح مازال ممكناً. وإن كان لا يدوم أكثر من لحظة، لكنها كافية كيما تعيد زراعة الأمل في تربة النفوس القاحلة إلا من أشواك الآلام المتراكمة. حتى لا نقول أن معذبّي الأرض لا يدرون بتغير الدقائق والأزمان. هنالك غالبية من الأمم أبطلت من طقوسها اليومية صناعة الأمل. كأنما كل المبشرين بالأمل في ميادين المدن المظلمة صمتوا حتى عن التفوه بالكلام المباح. معذبو الأرض كفروا باللغة. عجزت ألسنتهم، بعد قواميسهم، عن إيجاد الكلمات المعبرة عن أحوالهم. معذبو الأرض لا يعرفون شيئاً عن أفراح أو أعياد الناس الآخرين، لكن هؤلاء الآخرين. هل يعرفون شيئاً عن معذبي الأرض؟ هذا هو السؤال الأزلي، جوابه واضح في نصّه عينه.
وإذا أردنا التخصيص قليلاً وجهنا السؤال نحونا نحن العرب. ومن دون أن ندين غالبيتنا باللامبالاة أو بالتقاعس، بل بالفرار المنظم من أمام مرايا ضمائرهم. فلا هم باتوا من دون ضمائر حقاً، ولا هم حطموا كل المرايا من بيوتهم ومكاتبهم وشوارعهم. بيد أنهم في ليلة رأس السنة أرادوا أن يكونوا كبقية البشر. أرادوا أن يعيّدوا، أن يفرحوا ويسهروا إلى ما بعد أن تدق الساعة دقيقة نصف الليل. فماذا سيأتي به اليوم التالي مختلفاً عن يومهم السابق. هل هي عطالة الفهم النخبوي، هل هي بطالة الفعل العام. وقد يقال عن "العرب" أنهم ممنوعون من الفعل. لعلهم كانوا كذلك، أي أنهم ممنوعون عن الفعل، لكنهم أمسوا ممتنعين. هل هم مدركون للفارق بين الحالتين. في عصر الطغيان السلطوي كان المنع سيد الموقف، إلى درجة أن المجتمع انتهى به الأمر إلى تبني قمعه بذاته، فحين حُرمت أغلبية الناس من أفراحها اليومية سهل عليها الاستغناء عن حريتها، كاد أن يصير أمنها الجماعي من أمن حكامها الطغاة. هؤلاء الذين اطمأنّوا إلى هذه المعادلة "الموضوعية" جعلوا من دولة المجتمع ملكية خاصة تابعة لـ(مركب الاستبداد/الفساد) الذي أقاموه في أعلى مراتبها.
ثم عندما انطلقت أولى انتفاضة بعض فتيان من سورية، ومن بعدهم تقاطر الشباب والجامعيون منهم بخاصة. وخلال أسابيع قليلة، فقد عمت التظاهرات أريافَ القطر السوري، وأوشكت العاصمة دمشق والمدن أن تطلق جماهيرها، كان كل ذلك نذيراً بانفجار مستودع الأحقاد الدفينة تحت مظاهر اللامبالاة. إذ اكتشف الناس بغتة أنهم لم يكونوا فقط محرومين من الخبز. بل كان حرمانهم الأكبر من الكرامة. حدث هذا في تلك الدقيقة الفاصلة بين زمن للعبودية الطائعة، وزمن آخر للاحتجاج الغاضب، للمعارضة، ثم للثورة في المرحلة الحاسمة. كان اندفاعاً جماهيراً مزهواً بفرح عارم، بملاقاة الكرامة أخيراً؟
هكذا فهمت ومارست طلائع الثورة الشبابية السلمية تحركاتها الريادية الأولى الفاتحة. كان ذلك هو عيدها الأعظم الفاصل بين عصرين، أمست التظاهرات الأولى أشبه باحتفالات شعبية، خالطتها رقصات (الدبكة)، وتعالت منها أهازيج فرح عفوي، اختلطت مع شعارات الكلمات الممنوعة على الألسن منذ عقود. لقد دقّت ساعة الحسم حقاً. شعر كل مواطن أن نداء الثورة يتقصَّده هو بالذات. صار عليه أن يتخذ قراره. وإلا فإنه هو من سيكون المحِتقر الأول لذاته إنْ تقاعس واعتزل.
الثورة السورية كان لها ربيعها الحقيقي، كان لها جمهورها متدفقاً على ساحاتها، من كل الأمكنة والفئات والطبقات، أسابيع وأشهر قليلة معدودة كان زلزال الثورة خلالها قد أنجز مرحلة زعزعة أركان النظام قبل أن يوشك على الانهيار الكامل من الرأس حتى القاعدة.
والسؤال
الأصعب مع وداع السنة الثالثة من عمر المقتلة السورية الراهنة التي كان لها اسم
الثورة، قد يمكن صياغته مؤقتاً كما يلي: هل لا تزال الثورة تملك بقية هوية قادرة
على إعادة إحياء جثمانها من تحت كلكل مقتلات العنف الأعمى الجاثمة على صدره؟ فماذا
حدث فعلاً حتى انقلبت معطيات التجربة الثورية الشبابية الأولى من نوعها الفريد في
مسيرة نهضة الشام؟ إنه الرأي العام المنشغل بتعداد الأسباب والعلل القاتلة التي
ابتليت بها تطورات الثورة منذ مرحلة الانتفاضة، فهي في مجملها قد توصف بالعلل
الخارجية، والقليل منها راجع إلى ذاتية التكوين الثوري عينه.
ولا شك كانت العلة الأدهى هو الانزلاق المبكر نحو الفخ العسكري والتهميش المتعمد لقطاعها المدني داخلياً. هذا التحريف الخبيث الذي اشتغلت عليه أطراف متناقضة بدءاً من عقلية النظام نفسه، إلى العديد من القوى الإقليمية والدولية، كان لهذا التحريف هدف مركزي هو القضاء على الانتفاضة من حيث هي مشروع الثورة المدنية الأولى منذ الاستقلال الوطني. سوف تفقد الثورة طابعها الجماهيري. تتحول سريعاً - وهذا ما حدث فعلاً - إلى مجرد ميليشيات. ومن سوف يصنع المليشيا لن يكون هو الفكر الوطني أو الثوري. صُنّاعه هم أصحاب المال والسلاح. ومع ذلك لم ينقرض تصنيف الصراع ضد النظام، وإن تضاعفت اعباؤه بمقاتلة بعض رفاق السلاح في وقت واحد، تلك هي نهاية النهايات كلها.
في البداية أدرك النظام أن خسارته محتومة في منازلة شعب كامل ثائر. فالتصدي له بالقتل المتعمّد سوف يسّوغ الدفاع المسلح. وهكذا كان. اعتقد بعض أوائل القيادات الثورية أنه يمكن أن تنشئ الثورة جيشها المدافع عن جماهيرها الحركية، غير أن بساطة الوعي لدرجة السذاجة أحياناً كثيرة دفعت إلى انسياق الجميع تقريباً وراء الاعتقاد بقدرة العسكرة على الإطاحة برأس الدولة سريعاً، دون الحساب الواقعي لقوة الدولة وإمكانياتها داخلياً وخارجياً.
وبعد كل
المهالك والأفخاخ والمجازر، ومسلسل الأخطاء الدبلوماسية والتحالفات الخادعة، لن
تكون (العسكرة) وحدها هي البؤرة المفرّخة لمستقبل الظلام والدماء والخراب. فالعسكرة
عينها سقطت بدورها تحت عقابيل (المؤامرة). تسلطت عليها عشوائية التنظيم، وفساد
الارتزاق، وغباوات الأدلجات الظلامية. حتى تساقطت إلى الحضيض الميليشاوي والمذهبي.
باتت صريعة (التناتش) الظلامي.
كان يمكن للعسكرة أن تتطور، لو أمكن ضبطها تحت كنف ثورة مدنية شعبية عارمة، إلى تجربة رائدة في نطاق ذلك المصطلح التقليدي العريق: حرب تحرير شعبية أصيلة. فليس العسكر وحدهم المسؤولين عن الانحدار الميليشاوي إلى درجة استنبات فصائل الإرهابيات معها أو ضدها، إنه العجز الحقيقي قد يكون هو الصفة الغالبة على الطبيعة المدنية الأولى المختطَفة. فلا تلك المرحلة التدشينية لانطلاق الانتفاضة قد استطاعت النهوض بنظام عقلاني نزيه وخبير.
ولا العسكرة أمكن تثويرها كيما تتطور إلى تحشيد شامل، مبدع لنسق حرب تحرير شعبية تكون مالكة لأسباب القوة المنظمة المستدامة، المطلوبة في إسقاط واحدة من أدهى وأصلب قلاع الاستبداد البربري في الوطن العربي.
هل دقّت ساعةُ منتصف الليل مودعةً لظلام السنوات العجاف، ومبشِرة أو منذرة بالنصف الثاني، نحو فجر أبيض وضاء؟ هل تسرد الثورة جوهرها المخطوف من الأيدي القذرة؟ ليست تلك أسئلة اليأس بقدر ما هي دعوة إلى البدء من جديد بالثورة على اليأس أولاً.
5/1/2014