خارطة الشرف وخارطة الخيانة في الأنبار عاصمة المقاومة

د. مثنى عبد الله - باحث سياسي عراقي

ليس بين مفهومي الشرف والخيانة إلا موقف يسوّد صفحات ويبيّض أخرى. أما أصحاب الصحائف البيض فهم أولئك الذين عزمهم هو المؤهل الوحيد الذي يجعل العزائم لا تستقر إلا في رحلهم، فيجعلون منها ملاحم بطولة وفداء في سبيل المجموع. أما أصحاب الصحائف السود فهم أولئك الذين تعظم في عيونهم الصغائر فينهزمون أمامها ملقين بأنفسهم في أحضان أعداء أهلهم وقتلة أبنائهم، أملاً في شراء يوم أو بضعة أيام من العمر للعيش في كنف الذل والمهانة. ولقد كان غزو واحتلال العراق في عام 2003 سبباً في نهوض الكثير من القيم وارتفاعها في سماء الوطن، حتى باتت كحزمة ضوء ساطع شعت على أرض الرافدين، كأنها قدر كي يميز بين هذين الصنفين من البشر. فعرف العراقيون من هم أهل البطولة والعزم والمقاومة التي لا تلين، الذين أنار دروبهم ضياء القيم، كما عرفوا أولئك الذين أعماهم الباطل فبرزوا يقاومون الحق تحت مسميات "صحوات القوات الأمريكية وشركاء العملية السياسية".

وقد انخرط تحت هذه العناوين آخرون عُرفوا بأنهم زعماء قبائل وشيوخ عشائر، ففتحوا مضايفهم للمجرم بوش ولقادة الجيش الأمريكي المحتل، كما استضاف بعض رجال الدين وخطباء المنابر الحاكم الأمريكي بول بريمر والكادر الدبلوماسي في السفارة الأمريكية في دورهم ومدوا لهم موائد الطعام.

وقد كان نصيب محافظة الأنبار من هذا الفرز بين رجال الحق وأصحاب الباطل كما كبيراً. ولأن الخيانة عمرها قصير ورموزها لا يمكن الوثوق بهم حتى من قبل أسيادهم الذين استخدموهم، ولأنهم كعود الثقاب لا يستعمل إلا مرة واحدة، فسرعان ما تم التخلي عنهم وباتوا مطرودين من قبل السلطة الحاكمة في بغداد، بعد أن صدرت بحق الكثير منهم أوامر القاء قبض وقطعت عنهم الأموال التي أجراها لهم المحتل، وباتوا وجوها معروفة في شوارع عمان يلوذون في أماكن معلومة يعرفها العراقيون في الأردن. وعندما فاض كأس غضب الشرفاء في الأنبار وتفجرت الانتفاضة الشعبية فيها، وارتفعت في سمائها خيم الاعتصامات المطالبة بالحقوق، عاد البعض من هؤلاء وخرج آخرون منهم من جحورهم كي يلبسوا رداء الانتفاضة ويعتلوا منصات الحق، مدعين بأنهم ضد السلطات الحاكمة ومع المطالبات بالحقوق، بل كانوا أكثر تطرفاً من غيرهم في التصريحات عبر الفضائيات والصحف والمواقع الإلكترونية المعارضة، حتى تخالهم من أقطاب المقاومة الوطنية، لكن رفع الخيم والحرب التي أشعل المالكي أوارها في الأنبار، وسقوطه المهين في وحل الهزيمة نتيجة التصدي البطولي من قبل أهلها الشرفاء لثعابينه التي أطلقها عليهم، جعلته يولي وجهه صوب حلفائه الأمريكان طالباً النصيحة، فنصحوه بإعادة حلقة الوصل (الدولارت) التي كان قد قطعها عن "صحوات الأنبار" والآخرين المحسوبين على الأمريكان، فعادوا مرة أخرى يرتدون الدروع الواقية ويرافقون "قادة الجيش والأجهزة الأمنية"، يمارسون دور الدلالة لصالح المالكي على أهلهم وأبناء عشائرهم بتهمة الانتساب لـ"داعش" و"القاعدة"، ويصححون إحداثيات القصف المدفعي لقوات الجيش على الفلوجة والخالدية والبو بالي والكرمة وغيرها من أقضية ونواحي المحافظة وشوارعها وأحيائها. كما بات بعض شيوخ العشائر يمارسون دور المراسلين لرئيس الوزراء ولوزير دفاعه، الذي يأمرهم بالتحرك لممارسة الترغيب والترهيب على هذا الزعيم القبلي أو غيره كي يشتروا ولاءهم له.

أما المحافظ فقد ارتكب خطيئتين كبيرتين بحق أهل الانبار، الأولى عندما استغله وزير الدفاع كي يحضر إلى "مجلس الوزراء" ويدعي أمام المالكي بأنه الوحيد الذي يعلم بوجود "أكثر من 36 قائداً" من قادة "القاعدة" في ساحات الاعتصام، ثم أنكر علمه بما أدعى في لقاء تلفزيوني على إحدى الفضائيات نائياً بنفسه عن ذلك، مدعياً بأن لا علم له بذلك، لأن هذا واجب الأجهزة الأمنية وليس عمله، والثانية عندما طالب المالكي بدخول الجيش للمدينة بحجة سقوطها بيد "القاعدة" و"داعش".

إن تعدد قوى الخيانة والتنافس القائم بين رموزها في الذهاب إلى أبعد حدود الدعم للمالكي، أملاً في الحصول على الامتيازات المستقبلية التي تدرها مساهمتهم في الحرب الدائرة ضد أهلنا في الأنبار، سيطيل عمر الصراع الدائر فيها ويزيد من معاناة الأبرياء ويساهم في زيادة أعداد المهجرين، ويعطل مصالح الناس ويضيق عليهم عيشهم. فالسباق بات محموماً بين زعيم "قوات الصحوة" الأمريكية وزعيم (مجلس إنقاذ الأنبار) ورئيس صحوة المالكي وبعض الزعماء العشائريين، كل يريد تقديم أفضل الخدمات للحصول على أفضل الامتيازات، على حساب مصير ومستقبل المواطنين، وباتوا يلصقون تهمة الانتساب لـ"داعش" و"القاعدة" بكل صوت شريف يعارض المالكي وسياساته.

كما أن بدعة الاستقالة مع وقف التنفيذ التي تقدم بها بعض نواب "القائمة العراقية" و"متحدون"، هي الأخرى تدعم موقف السلطة الباغية، وتعطيها مؤشراً خاطئاً على عدم وجود قرار شجاع لدى الأطراف الأخرى في مواجهة الباطل حتى لو كان بدرجة "أضعف الإيمان"، وقد تكرر هذا المشهد البائس مرات عدة ثم عادوا أدراجهم إلى البرلمان ومجلس الوزراء.

إن رهان أهل الأنبار بات اليوم محصوراً بشيوخها الذين عززوا أقوالهم بأفعالهم الشريفة ومواقفهم البطولية، والذين عكسوا وحدة العراق ومجتمعه عندما فتحوا مضايفهم إلى كل من ألقى سلاحه من قوات الجيش، وباتوا يرعون مصالح الناس ويسهرون على ممتلكاتهم بعد أن هجرّهم القصف المدفعي على المدينة، كما أن الرهان معقود أيضاً على (مجلس ثوار الأنبار) وفصائل المقاومة وكل الأصوات الشريفة التي رفضت ظلم وطغيان السلطة، وكذلك رجال الدين الذين لم يواربوا ولم يهابوا ووقفوا وقفة عز في وجه سلطان جائر. لكن من حق أهل الأنبار أن يسألوا أين أفعال ساحات الاعتصامات الأخرى في بقية المحافظات؟ ولماذا لم يرتفع فعلهم إلى مستوى البطولة التي تجري في غرب العراق؟ بل أين التضامن الذي يفترض ألا يبقى محصوراً بالأقوال والخطب، بينما دماء أهلهم تسيل في الأنبار؟

إنه موقف بات جميع الشرفاء مسؤولين مسؤولية تاريخية عن ضرورة تسجيل أسمائهم في سفره، لأنه الوحيد الذي يقرر مصير ومستقبل العراق ويفتح نافذة إنقاذه من الهوة السحيقة التي هو فيها منذ أكثر من عشر سنوات.

"القدس العربي" لندن 27/1/2014