العراق على خط الشروع نفسه في المأساة السورية
د. مثنى عبد الله - باحث سياسي عراقي
لم يعد هنالك من شك في أن الوضع العراقي الراهن قد بات قاب قوسين أو أدنى من الانزلاق إلى نفس المصير السوري. قصف عشوائي بالمدفعية الثقيلة والصواريخ، وطيران الجيش والطائرات بدون طيار على مدن وأحياء ذات كثافة بشرية كبيرة في محافظة الأنبار. مدن وأحياء كبرى خلت من ساكنيها بعد أن هدمت دورهم وتوقفت الحياة فيها بشكل تام، وانعدم فيها كل مستلزمات العيش. موجات بشرية تتدفق على المحافظات القريبة طلباً للجوء في مدرسة أو مسجد أو لدى قريب.
قوافل
مساعدات تصل أو لا تصل، بعد أن يمنع الجيش بعضها في خطة حصار المدن. سيطرات عسكرية
تحيط بالأنبار من كل الجهات، ولا يكاد ينجو من الاعتقال على أيدي منتسبيها سوى
النساء والأطفال، كل الجوامع والمستشفيات والمدارس باتت هدفاً لحمم النار المنطلقة
بدون رحمة.
ووفق كل هذه المؤشرات والوقائع التي باتت حقائق ثابتة، فأنه أصبح في حكم اليقين أن السلطات الحكومية اتخذت قرارها الاتهامي بأن كل سكان الأنبار هم "إرهابيون" و"تكفيريون" و"قاعدة"، وغيرها من التسميات التي فصلت على مقاساتها المادة "الرابعة إرهاب". لذلك بات كل شيء يمكن أن تستخدمه السلطات في حربها ضد شعبها في هذه المحافظة قانونياً وشرعياً من وجهة نظرهم، لأن المعادلة التي يؤمن بها المالكي هو أنه الحاكم، وهو النظام، وأن الدولة هي دولته بعد أن شكلها وفق نظريته الطائفية، لذلك فأن أي معارضة هي غير شرعية في نظره مهما كانت أهدافها وغاياتها وطنية، وأن أي معارض مهما كان شريفاً ونزيهاً هو يهدد كيانه. لقد وضعته الاعتصامات السلمية في الأنبار والمحافظات الأخرى، خلال عام كامل، أمام خيار حقيقي، إما أن يختار السلطة بجزء من معانيها السلبية، أو ينحاز إلى النهج الديمقراطي الحقيقي، ولأنه أحد أزلام المحتل وحاضنته الحقيقية هي إيران وأمريكا، فمحال أن يختار الديمقراطية، لأنها ليست ثوبه وخياراتها وشروطها ومستلزماتها تفرض إعادة هيكلة له على المستويات الشخصية والحزبية والعقائدية، وهي مهمة صعبة غير قادر على القيام بها، لذلك اختار السلطة.
وعندما
يختار الحاكم السلطة وقواها العارية وأجهزتها القمعية في وقت الأزمات الداخلية
لمواجهة مطالب شعبية، يعني أنه ذاهب إلى حرب شعواء ضد شعبه. هذا هو الذي حصل في
سوريا في بداية الحراك، وهو الطريق نفسه الذي يسير عليه المالكي اليوم، وإذا كان
الروس قد حشدوا جهدهم السياسي والعسكري مع الأسد، فأن الأمريكان اليوم حشدوا جهدهم
السياسي والعسكري مع المالكي، لكن لأسباب مختلفة عن الدعم الروسي للأسد، فالأمريكان
يعتقدون بأن النظام الحالي هو نظامهم الذي صنعته أيديهم وأموالهم ودماء قتلاهم، وهم
حريصون على إعطاء صورة للشعب الأمريكي مغايرة تماماً لحقيقة النظام السياسي الذي
صنعوه، كي لا يثار السؤال الكبير عن جدوى الذهاب إلى العراق واحتلاله، لذلك هم
اليوم يسوّقون إلى الرأي العام "حرب المالكي ضد شعبه" على أنها حربه ضد "القاعدة
والدولة الإسلامية"، ويمارسون الترغيب والترهيب على "صحواتهم" في الأنبار وغير
الأنبار كي يعودوا إلى ارتكاب نفس الجريمة، ويعملوا مخبرين سريين للسلطة وقواتها،
ويمارسوا دور الدلالة على كل وطني شريف يناهض المنهج الطائفي الحالي، وهي وسائل
تقوي من عزيمة المالكي وتدفعه إلى الإيغال أكثر في دماء أهلنا، خاصة حينما بات
الغطاء الأمريكي عامل جذب لغطاء دولي من خلال موقف المنظمة الدولية، التي انزلقت
إلى ترويج فرية مقاتلة الإرهاب في الأنبار.
لقد تضافرت
عوامل عديدة في انزلاق الوضع العراقي إلى ما هو عليه الآن، حيث أن النظام السياسي
القائم هو نظام منقسم على ذاته، مما يساعد عناصره على المراوغة واعتماد أساليب غير
قانونية في معالجة الأزمات الناشئة لتحقيق الغلبة على بعضها الآخر. كما أن القيادات
المتصدرة للمشهد قيادات أزمة تعتاش وتنتج وتستنسخ كل عناصر الاختلاف والتقاتل
الداخلي، وهي حريصة على إعادة تدوير السلطة لصالحها إلى سنوات قادمة، في ظل سياسة
الاجتثاث، التي أقصت النخب التاريخية الوطنية التي هي وحدها قادرة على وضع الدولة
على سكة الانطلاق الصحيح من جديد.
ولأن العراق يسير في غياهب اللادولة، ولأن الجهات الحاكمة تتعاطى مع أكثر من جهة خارجية دولية وإقليمية، فأن مصير الوطن سياسياً واقتصادياً وأمنياً باتت تقرره جهات عديدة، وتستثمر في كل شؤونه وموارده لصالح أمنها الوطني والقومي، لذلك لا غرابة في أن يضع الساسة في سوريا والعراق وإيران وبعض القوى الدولية المشكلة العراقية والسورية في إطار ما يسمى "داعش" فقط، بعيداً عن المطالبات بالحقوق ورفض المظالم التي جهر بها الناس في القطرين. انه اجتزاء انتهازي بامتياز، وابتعاد تام عن المصدر الرئيسي للمشكلة، وهي البيئة السياسية المفككة التي خلقتها الطبقة السياسية الحاكمة، ذلك الوسط الصحي الذي تنشأ فيه كل عوامل الاضطراب وتترعرع فيه الجماعات الخارجة عن القانون وتضيع فيه الحقوق العامة. إن التهرب الدولي وغض النظر المتعمد عما يحصل في العراق، واختصار الحل بالحل العسكري وتزويد النظام بالأسلحة والمعدات المتطورة ستزيد المشكلة سوءاً، وتعطي المالكي شعورا بأنه لابد من مواصلة الاعتماد على الجيش والقوى الأمنية، لكنه خيار سيعري النظام الحاكم والقوى الدولية الحليفة له، لأنه سيكشف هشاشة بناء هذه الأجهزة التي أنفقت عليها مليارات الدولارات لإعدادها وتسليحها وتدريبها. وقد بانت هذه الهشاشة واضحة في المعدات العسكرية المتروكة والمحترقة في كل شوارع الأنبار، ولجوء العديد من الجنود والضباط إلى مقاتلي العشائر وشيوخها، وفشل رهان المالكي وأعوانه على أن "الحسم العسكري سيكون خلال بضعة أيام"، بعد أن حاول مراراً وتكراراً استفزاز المعتصمين كي يتحولوا إلى العنف حتى يبرر تصديه لهم أملاً في تحقيق نصر كاذب، فخاب ظنه وفشل مسعاه.
"القدس العربي" 3/2/2014