عندما يرتكب الطغاة الخطيئة نفسها في الأنبار
د. مثنى عبد الله - باحث سياسي عراقي
إنها الحماقة نفسها، والغطرسة الجوفاء عينها، والجريمة النكراء بكل تفاصيلها. إنه سيناريو المجرم بوش في الانبار يعيد تفاصيله اليوم رئيس وزراء العراق من جديد في نفس المكان. نائب عن المحافظة توزّع صوره بصورة مقصودة، معصوب العينين وأخرى يمسك رأسه أحد عناصر الجيش باتجاه الأرض، وشقيقه القتيل بنيران قوات "سوات" يطأون رأسه بأحذيتهم وقد فارق الحياة، وهو الأسلوب نفسه الذي تعاملت به القوات الأمريكية مع أهل الانبار. قصف بالطائرات والمدفعية الثقيلة والهاونات على مدن وأحياء سكنية تعُج بالبشر. حصار اقتصادي أدى إلى نقص في الغذاء والدواء وكل مستلزمات الحياة الضرورية. قطع الطرق بين المدن والمحافظات الأخرى وتعطيل وسائل الاتصال بين الناس.
محاولات
حثيثة بالإغراءات المادية والمعنوية لشق التماسك المجتمعي، من خلال كسب هذا الطرف
العشائري أو ذاك ووضعه في مواجهة الطرف الآخر. التعامل مع كل أهل الانبار على أنهم
(إرهابيون) و(قاعدة) و(داعش) حتى تثبت براءتهم. ومع كل ذلك يقولون إنه العراق
الجديد الديمقراطي، وأن جميع الحاكمين فيه، صغيرهم وكبيرهم، جاءوا إلى السلطة عبر
صناديق الاقتراع، وأنهم ليسوا طائفيين بدليل ذهاب كبيرهم إلى البصرة لقيادة "صولة
الفرسان" ضد الخارجين عن القانون، الذين كانوا من طائفته. لكن من يتعكّز على هذه
الأقوال لن يستطيع أن يقول لنا، لماذا لم نر أحداً من أولئك مكبل اليدين والرجلين
يستعرضون به جبروتهم أمام عدسات الفضائيات، كما يفعلون ذلك مع سكنة مناطق أخرى؟
ولماذا عندما تنفجر سيارة مفخخة في أحياء العاصمة، تُداهم قوات "سوات" بيوت مواطنين
في مناطق حزام بغداد وتعتقل رجالهم؟ وعندما يحصل تفجير انتحاري في ذي قار أو المثنى
أو القادسية تذهب نفس القوات كي تعتقل شباباً من صلاح الدين أو نينوى؟ لماذا
الغالبية المطلقة من السجناء والمغيبين والمهجرين هم من محافظات محددة دون غيرها؟
ولماذا من قاوموا الاحتلال وقبعوا في سجونه سنين طويلة لازالوا حتى اليوم مطاردين
من قبل السلطة بتهم شتى، بينما آخرون زعموا أنهم قاموا بنفس الفعل وسجنوا في نفس
المكان، انتظموا في العملية السياسية وباتوا اليوم يستعرضون بقواتهم الميليشياوية
في بغداد وغيرها من دون أن يسألهم أحد؟ والسؤال الأخير هو لماذا لم نر زعيم ميليشيا
جيش البطاط، الذي قالوا أنهم اعتقلوه مؤخراً، مكبل اليدين ومعصوب العينين، وعناصر
"سوات" يطأطئون رأسه أو يطأون رأسه، كما فعلوها مع النائب المحصّن وشقيقه القتيل في
الانبار؟ ألم يهدد هذا ويتوعد الناس بالويل والثبور والقتل وقطع الرؤوس، وقام بقصف
دول عربية بالصواريخ وهدد الأمن والسلم الوطني؟ لقد مارس رئيس الوزراء سياسة
تثقيفية طائفية بامتياز، وحاول أن يجعل من خطاباته التي يبثها في كل مناسبة صغيرة
وكبيرة موعداً جديداً للحشد الطائفي، فتارة يعرّف نفسه بالطائفة قبل الوطن، وتارة
أخرى يتبنى الميليشيات الطائفية ويتغاضى عن نشاطاتها، ومؤخراً بدأ يوظف في خطاباته
رموزا دينية مختلفاً عليها طائفياً، فيقسّم المجتمع العراقي الى اتباع يزيد وأتباع
الحسين، ويصوّر المشاكل التي تحدث في البلاد على أنها حرب على أتباع الحسين. وهو في
كل هذه الممارسات السلبية يهدف إلى تسليط الضوء مجدداً على مصطلح المظلومية
التاريخية، كي يبقى الجميع في حالة استنفار ضد الطرف الآخر، وأن يبقوا يحشدون كل
أصواتهم إليه وقواهم خلفه، باعتباره "قائد المظلومين التاريخيين".
إنه
الأسلوب البائس نفسه الذي مارسته قوات الاحتلال، كي تحصّن نفسها من وحدة وطنية
جامعة مقاومة لوجودها وأجندتها، حيث كان الحاكم الأمريكي بريمر يدور على كل الأطراف
السياسية وبعض وجهاء القوم ونفر من رجال الدين، يُحذّرهم من بعضهم بعضاً، ويُذكّرهم
بحوادث ومواقف تاريخية لم تستقر في الذاكرة الجمعية العراقية، وتجاوزها العراقيون
عندما تناخوا لبناء وطن واحد ومجتمع واحد. لكن قوانين المحتل وأعرافه وسياساته،
تبقى تلقي ظلالها على الطبقة السياسية التي يوكلها للحكم بدلاً عنه في حالة هزيمته،
وهذا هو ما اكتسبه نوري المالكي ورهطه من الذين قدموا مع المحتل، أو ممن كانوا في
الداخل ثم انتظموا في عمليته السياسية التي صاغها لهم وفق مصالحه، فظهر لنا طغاة
شيعة وسنة يدافعون زوراً عن صفاتهم العرقية والطائفية، ويهاجمون الصفات الأخرى
ويلصقون بها كل التهم.
راجعوا كل خطابات المالكي منذ بداية الاعتصامات وحتى اليوم، ستجدون أشنع الصفات وأقبح الكلمات قالها في وصف المعتصمين الذين هم من أبناء "شعبه". استذكروا كل الأفعال التي مارستها قواته، وهو القائد العام للقوات المسلحة، ستجدون عشرات المعتصمين اعتقلوا وقتلوا وبعضهم غيبوا على يد قواته، وإذا كنتم تبحثون عن السبب الحقيقي لحقده على المعتصمين، فقد أوجزها هو لنا جميعاً في خطابه الأسبوعي بعد هدم ساحة اعتصام الانبار. لقد قال "أهلاً وسهلاً بأهل الانبار الحقيقيين نحن مستعدون لسماع مطاليبهم". إذن من هم أهل الانبار الحقيقيون في تصوره؟ إنهم أولئك الذين يقبلون بالظلم والاجتثاث والإقصاء، وفتات المناصب والموائد والاعتقالات والاغتصاب، ويُسلّمون أبناءهم الأبرياء طائعين وفق "المادة 4 إرهاب"، وعكس ذلك فهم دُخلاء على الانبار وليسوا من أبنائها، وهم "إرهابيون" "تكفيريون" و"قاعدة" و"داعش". وبذلك نكون مرة أخرى أمام شعار "من لم يكن معنا فهو ضدنا"، الذي حارب به بوش العالم كله، واليوم يرفعه المالكي ويحارب به العراقيين جميعاً اينما وجدوا على خارطة الوطن.
إن المسؤولية الوطنية تفرض على كل الرموز المعنوية، شيوخ عشائر ورجال دين ووجهاء، ألا يُلدغوا من جحر آلاف المرات، وأن يُقدّروا وقفة أبنائهم وأشقائهم وكبارهم في ساحات الاعتصامات لمدة عام كامل، وألا يراهنوا على من انتظم في العملية السياسية منهم، فيخدعوهم بكلام معسول ينقلونه إليهم من المالكي. كما أن عليهم ألا ينخدعوا بالاستقالات المؤجلة التي أعلنها البعض من الانتهازيين، الذين اعتادوا أن يتقدّموا نصف خطوة ويتراجعوا خطوتين لصالح المالكي والعملية السياسية ولمصالحهم الشخصية أيضاً، ومن كانوا في ساحات الاعتصامات هُم الرهان الحقيقي لإعادة الحقوق والعيش بكرامة.
"القدس العربي" 6/1/2014