الطائفية ومنسوب الخطاب الطائفي السلطوي
عديد نصار - كاتب سوري
الطائفية، هي الشكل السياسي الذي به قامت سيطرة الطبقة الرأسمالية المسيطرة في لبنان، والذي به تستمر، بدعم وبتبعية لمراكز الهيمنة الإقليمية والدولية في نظام رأس المال.
لذلك فإن قوى ورموز وإعلام هذه الطبقة، لا تنفك (ترطن) بها وتحرض فيها لتكريس الانقسامات الداخلية (وإقليمياً) العمودية اجتماعياً، بحيث يرتفع منسوب الضخ الطائفي والمذهبي كلما تهددت سيطرتها أو كلما تضاربت مصالح أطرافها على المناصب التي تؤمن لها مزيداً من النفوذ والنهب والتي تسهم في تكريس تمثيلها الزائف للطوائف بالتوافق حيناً وبالتنازع أحياناً.
لقد اعتادت تلك القوى فرض تمثيلها الزائف على أتباع الطوائف والمذاهب، وبدعم مطلق من مراكز التبعية، في المرحلة التي تلت "اتفاق الطائف"، بواسطة قوانين انتخابية تزور إرادة الناخبين، وبلوائح انتخابية مفروضة من قبل الأجهزة السورية في مرحلة وصايتها على لبنان، وبمختلف وسائل الضغط والابتزاز والتخويف، ما كرس استمرارها في السلطة وجعلها تحتكر، في مرحلة ما بعد الانسحاب السوري، السيطرة على مواقع كل من السلطة والمعارضة، ليبقى الشارع المنسحق تحت وطأة فساد تلك القوى خارج أية حسابات سياسية.
واليوم، وبعد أن انتهت ولاية مجلسها النيابي الذي لا يمثل سوى مصالحها هي، كونه يتألف في الواقع من مندوبي تلك القوى وليس من ممثلين فعليين للهيئات الناخبة، وبعد أن مدد هذا المجلس لنفسه دون الرجوع بأي شكل لتلك الهيئات، يصبح أي ادعاء تمثيل للشارع، هو ادعاء باطل ببطلان ممثلية ذلك المجلس بعد انتهاء مدة ولايته. وبذلك يصبح الحديث عن "الميثاقية" في تشكيل الحكومة مجرد ذر للرماد في عيون المواطنين، وحيث تنجح تلك القوى المسيطرة في فرض نفسها في الحكومة المرتقب تشكيلها، يمكن ملاحظة الوقاحة المفرطة في التنازع على مراكز النهب في وزارات الخدمات والتحصيل الجبائي والموارد المالية، ما يعيق تشكيل الحكومة منذ أكثر من شهر، بعد أن تم التوافق إقليمياً على فرض حكومة "سياسية" من تلك الأطراف، أي بعد انتفاء المعوق الخارجي. يترافق ذلك مع ارتفاع النبرة الطائفية بشكل فاقع ووقح ليصبح خروج هذا الوزير من وزارة يعرف تفاصيلها بعد أن هندسَ على مدى سنوات (مزاريب) النهب وأبواب الفساد فيها، قضية مصيرية تتهدد تلك الطائفة، ويستحضر من أجلها كل أشكال التحريض والعنصرية. وليخرج خطاب الحليف وكذلك المناوئ من نفس التوجه ليخدم نفس القضية: قضية التحاصص و(التناتش) على موارد البلاد، باسم مصالح الطوائف وقضاياها المزعومة.
ويمكن للمراقب أن يلاحظ كيف أن الدفاع عن المشاريع والبرامج والخدمات العامة، إن حصل، فإنما يأتي ركيكاً وسطحياً ومتناقضاً يعكس زيف تلك المشاريع والبرامج ورداءة تلك الخدمات التي لا تستخدم إلا أبواباً للسرقة والفساد والابتزاز.
فالكهرباء، (والنفط والمياه والأشغال والصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية..) التي تكبد المواطنين والدولة المليارات، وما من كهرباء، وما من نفط، التي ليست سوى أبواباً للنهب ومواقع لتوظيف المحاسيب والاستزلام، تصبح محوراً للتنازع والتصارع على السيطرة. وحتى يُغطي على كل ذلك، ينتفض الخطاب الطائفي، فيصبح الزعيم الفلاني مدافعاً فذاً عن مصالح، لا بل عن وجود الطائفة الفلانية في لبنان، لا بل في الشرق كله. وإذا كانت المافيا العونية من الوقاحة إلى درجة اعتبار نفسها الممثل الحقيقي لمصالح المسيحيين في الشرق، فإن "حزب الله" باستبداله تعبير "شيعة" بتعبير "المقاومة"، واقتسامه التمثيل الزائف لهذه الطائفة مع "حركة أمل"، بالتراضي حتى الآن، يخففان عنه عبء التعبير الطائفي الصريح ليصبح تعبير "المقاومة" والدفاع عن "المقاومة" بديلاً عن الدفاع عن الطائفة الذي يبقى، في إطار التسويق الداخلي، أكثر وضوحاً، وقد تجلى بشكله الفاقع في تدخله العسكري إلى جانب النظام السوري من خلال الشعارات المذهبية التي استخدمت لاستنفار الغرائز، والتي استدرجت الإرهاب الظلامي الذي يتحرك بتوجيهات استخبارية ليضرب أمن وحياة اللبنانيين في مختلف المناطق. الخطاب الطائفي هو ضخ للوعي الزائف من أجل تكريس التمثيل السياسي الزائف للمذاهب والطوائف، والذي به تتشرعن سيطرة الطبقة المافيوية الحاكمة بمختلف أطرافها، وبه تستمر.
ويكون للخطاب الطائفي المستعر وظائف أخرى منها تعزيز موقع هذا الفريق المافيوي أو ذاك في عملية (التناتش) على المغانم، والتغطية على الفشل المقصود في الدفاع عن المصالح الوطنية وفي تأمين الخدمات الضرورية للمواطنين. في ظل غياب فاقع لأي بديل سياسي يعبر عن المصالح الحقيقية للناس في الأمن والعدالة الاجتماعية والمساواة، ويطرح مشروعاً سياسياً يقلب الطاولة في وجه قوى الفساد والتبعية، يبقى المواطن فريسة سهلة لمافيات السلطة، أو متسولاً لتأشيرة هجرة يتهافت على أبواب السفارات. فمتى تلد المعاناة هذا البديل؟
"العرب" لندن 11/2/2014