وهل هناك حل وسط؟

عقاب يحيى

يكثر الحديث، وغبار صقيع جنيف يتفتت هباء، عن الحلول الوسط، وضرورة التنازلات، وأن كل مفاوضات الدنيا تُلزم اطراف التفاوض أن يتنازل كل واحد حبتين، وربما رمانتين، حتى يتلاقيا في المنطقة الوسطى، وتخرج حينها زغاريد الاتفاق. التنازل المطلوب مفتوح الأشداق، ولنعد إلى شيء من السيرورة لنرى، المدى، والمطلوب.

***

مع استخدام الطغمة للقتل، والعنف وسيلة في مواجهة مطالب شعبية عادية، جاء شعار إسقاط النظام تعبيراً عن ضرورة تاريخية، وواقعية لا مناص من تحقيقها لأجل تأمين قاعدة بناء نظام ديمقراطي تعددي، بعد فقدان أي مراهن على الحلول السياسية، وعلى قابلية الطغمة الفئوية على الإصلاح، وعلى القيام بإجراءات حقيقية.

تطور الشعار ليصبح المطلب الرئيس، وانتقل العمل لتجسيده من المظاهرات السلمية بكل أطوارها، وتنوعاتها: الإضراب، الاعتصام، وحتى العصيان، على الإسقاط بالقوة، كسبيل وحيد لم يبق غيره.

هذا التطور ترك اثره في الخطاب السياسي وهو يصعد إلى حدود من مستواه، فيصبح شعاراً تتبناه قوى وهيئات سياسية، ولفيف شعبي واسع، وبما يعني قطع أية خيوط لأية حوارات أو مفاوضات مع الطغمة، وفتح الباب عريضاً للعمل المسلح والمقاوم كي يصل غلى تحقيق الهدف.

***

في مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية (تموز 2012) كانت شقة الخلاف واسعة في اللجنة التحضيرية حول عملية الانتقال لوضع ديمقراطي، بإسقاط، أو إنهاء، أو رحيل النظام، بين الرهان على الحل السياسي خياراً وحيداً، وتحديداً "مبادرة كوفي عنان"، أو الربط بين العسكري والسياسي لتشكيل ميزان قوى يفرض تأثيره على طاولة التفاوض، إن كان لا بدّ منها.

وعبر نقاش طويل، ومن خلال تفاهمات وتوافقات، جاء النص في وثيقة العهد يعكس ذلك "تنحية رأس النظام وكبار رموزه، وتحويل المتورطين بالقتل للمحاكم" شرطاً لازماً لإطلاق اي عملية تفاوضية، ولوضع الحل السياسي على سكة الوصول لنتائج تؤمن الانتقال إلى نظام ديمقراطي بديل.

بعد أيام، وفي روما تملّص بعض الحضور، من "هيئة التنسيق"، وبعض من أعضاء اللجنة التحضيرية من ذلك الشرط، مما فتح الباب لخلافات جديدة، وتفسيرات ملتبسة عن القبول، والمرونة، وموقع ذلك الشرط.

الحقيقة أن جملة عوامل كانت تدفع ليكون ذلك الشرط ملزماً، وواجباً على المعارضة أن تقف عنده احتراماً لإرادة وتضحيات الشعب السوري، واستجابة واقعية لمواجهة نهج النظام الفئوي، وما يقوم به من فعل إبادي ينسف أي تفكير بأي حل سياسي معه.

لا شك أن تقدمات "الجيش الحر" في تلك الآونة، ووصوله أعتاب العاصمة، واتساع حركة الانشقاقات العسكرية وغيرها، وبدء حدوث انهيارات كبيرة داخل الطغمة تهدد بانهيار شامل، فتح الآمال على مزيد من التشدد في ذلك الشرط، وفي رفض أية مفاوضات مع نظام مجرم، قاتل.

لكن عوامل متضافرة اجتمعت أدّت إلى نوع من الخلخلة الواقعية في ثباته، وأهمها فشل المراهنات على الحل العسكري الحاسم، وانكشاف رفض "أصدقاء سورية" لتقديم السلاح اللازم الذي يعدّل ميزان القوى لصالح الثورة، وإصرارهم على الحل السياسي طريقاً وحيداً، ثم ممارسة ضغوط حثيثة، متنوعة لفرضه.

***

حين تشكّل "الائتلاف" كانت واحدة من التهم الكبيرة التي وجهت إليه أنه وُجد لأجل الذهاب لجنيف، ولعل ذلك ما يفسر بعض ردّ فعل أعضائه، وترجمة ذلك في وثيقة التأسيس التي تنصّ على ان الهدف الرئيس لقيام "الائتلاف" إسقاط النظام بكافة رموزه ومرتكزاته، ورفض الحوار والتفاوض معه، إلا في حالة واحدة هي التفاوض على تسليم السلطة، وربط تغيير هذه الفقرات التأسيسية بثلثي الأعضاء.

لكن مياها كثيرة جرت في السواقي، وتحت الأرض كانت باتجاهات أخرى، إن كان ما يرتبط منها بسير الصراع على الأرض وتراجع وتيرة فعل الثوار فيه، وانتعاش الطغمة، خاصة عبر التدخل الإيراني السافر، و"أحزاب الله" وغيرها، وموقف روسيا ومعوناتها، كانت تؤثر واقعياً على موقع ذلك الشرط، وعلى انزياح جلي باتجاه الحل السياسي، خصوصاً وأن الضغوط الدولية تكاثفت وانتقلت على التهديد، وظهر جلياً أن النزيف السوري مرشح لمزيد من الدمار والاحتمالات، وأن الحرب الطائفية خياراً تسعى إليه اطراف كثيرة: النظام الفئوي وغيره، وأن "أصدقاء سورية" يرفضون أي حل عسكري، كما يمتنعون عن تقديم اللازم من الدعم العسكري للجيش الحر، ناهيك عن واقع العمل العسكري وما شهده من بروز "داعش" والاتجاهات المتشددة، وبدء صراعات بينية تصل حد الاحتراب، وشبه استحالة توحيد العمل المسلح وإتباعه لمرجعية عسكرية واحدة.

***

ورغم تكرار اتخاذ قرارات حول المحددات الواجبة، كشرط مانع لحضور جنيف دون توفرها، شهدنا انزياحاً "سلسلاً" فيذلك الشرط اتخذ عدة أسماء، لو أمعنّا النظر في مفرداتها، وما بين وخلف السطور لأدركنا أنها تراجع واضح يرتدي ثوباً خجولاً، أو فضفاضاً، وستاراً لإخفاء تلك الحقيقة، فباتت ترد تعابير: نقل السلطة من الأسد لأحد نوابه. ألا يكون الأسد وكبار الرموز جزءاً من الحل السياسي. ألا يكون رأس النظام جزءاً من المرحلة الانتقالية. ألا يكون لرأس النظام وعائلته أي دور في مستقبل سورية، وهي فروق واضحة في كل تعبير منها، وتوضح ليس الاختلاف في المواقف والخلفيات داخل وحول الائتلاف وحسب، بل في صفوف المقتنعين اصلاً بالعملية السياسية درباً رئيساً.

"الائتلاف" قرر في بيان طويل عريض، وضع محددات للشماركة في جنيف، يُفهم منها باللغة العربية الفصيحة أنها شرط مسبق، وانها ما لم تتوفر قبل جنيف فلن يحضر، بتاتاً، ومطلقاً، وقطعاً، وحكماً.

ثم بدأت فترة التليين، والتحضير، والتردد، وقذف بعض" التطمينات" كمسهلات تنسب لهذا الطرف الخارجي أو سواه، والتعكيز على بيان "أصدقاء سورية" الإحدى عشر، وكأنه تعهّد قاطع بألا يكون الأسد جزءاً من الحل السياسي، أو من مستقبل سورية، والمراوغة والتكتيك في التمرير واللفّ على قصة التصويت، والنظام الساسي بتفسيرات مطعون في صحتها السياسية والقانونية والتنظيمية، ومثلها نسبة المصوتين، لصالح الذهاب، في حين بدا الذهاب أمراً لا بدّ منه، واستحقاقاً لا يمكن التملص من نتائجه، فصمت كثير عن الذي جرى.

عملياً "الائتلاف" بذهابه أسقط تلك المحددات، ولا يهم هنا ورودها في الخطابات، فجميع الخطابات لا قيمة قانونية لها، وهي تخص أصحابها ولا تصرف في سوق المفاوضات، ولا يقام لها أي اعتبار.

أكثر من ذلك، وأمام الضغوط، بات وفد "الائتلاف" مضطر للتعامل مع شروط جديدة يفرضها النظام وحلفاؤه، والخاصة ببنود رئيسة، تتجاوز صلب نقاط "جنيف 1" الست، خاصة محورها: هيئة الحكم الانتقالية، على إقحام ملف محارة الإرهاب بنداً رئيساً، ثم بنداً مدخلاً سيكون طوفانا للغرق.

***

بعد كل هذا ماذا تملك المعارضة كي تتنازل عنه؟، وما هي الحلول الوسط الذي يقصدون؟؟،

هل يريدون التسليم ببقاء النظام وعلى رأسه المجرم وكبار القتلة؟.

هل يريدون إدخال المعارضة بيت طاعة النظام تحت عنوان التشارك، فالإسهام في حكومة واسعة؟.

وأي حل سياسي سيكون وقصة الانتقال إلى نظام ديمقراطي ينهي الاستبداد، ويحل الأجهزة الأمنية، ويحاسب القتلة في محاكم عادية، تتجاوز أي حل وسطي؟.

أم يريدون تحويلنا لعارضة "ستربتيز" من النوع الساذج؟!

الجزائر 15/2/2014