بعد سوريا الروليت الروسي في أوكرانيا
رأي القدس
بعد سوريا، تحاول روسيا في أوكرانيا، إعادة صياغة جديدة للعالم بما يوافق طموحات رئيسها فلاديمير بوتين؛ وفهم هذا الرجل وأسلوب قيادته سيساعد كثيراً في فهم ما يجري في أوكرانيا وسوريا.
يشبه بوتين مزيجاً من أباطرة روسيا السابقين مثل ايفان الرهيب وبطرس الأكبر، فأولئك الأباطرة هم النماذج التي تسيطر، على الأغلب، على المخيال السياسي لضابط الـ(كي جي بي) السابق هذا.
أما باراك أوباما، فيشبه، ضمن السياق الأمريكي، مزيجاً من مارتن لوثر كينغ، الناشط الأسود لحقوق الإنسان، وجون كينيدي، الرئيس الكاثوليكي الأول لأمريكا، وبضرب صورتي أوباما وبوتين ببعضهما البعض سنجد مفارقة كبرى، فأوباما، يشبه ناشطاً مناصراً للحريّات المدنية (لا ننسى أنه حائز على جائزة "نوبل للسلام"!)، يواجه، على حلبة القتال، مصارعاً من طينة ستالين.
يمثّل هذا التواجه بين شخصيتي بوتين وأوباما لحظة فارقة في تاريخ روسيا وأمريكا والعالم، فهما تستقيان أصولهما التاريخية والسياسية من اتجاهين متعاكسين وسياقين شديدي الاختلاف، فإضافة إلى الطابع الفريد لانتخاب أوباما، بصفته أول رئيس أمريكي من أصل إفريقي وجذور إسلامية، فهو أيضاً يمثّل موجة الانعزال الأمريكية التي تحصل تقريباً بعد كل حرب كبيرة تخوضها الولايات المتحدة، فيما يمثّل بوتين الإندفاعة الروسيّة التي قبضت أرباحاً هائلة، اقتصادية وسياسية، من التدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق، أعادت استثمارها بعنف في جورجيا وسوريا والأمم المتحدة، وبدبلوماسية ماكرة في مناطق أخرى كإيران والعراق ومصر والجزائر.
كذلك فإن التحالف بين روسيا وإيران والنظام السوري، ونتائجه في سوريا ما كان لها أن تحصل بالطريقة الكارثية التي آلت إليها لولا شخصية الرئيس السوري بشار الأسد، الذي حصل على منصبه الجمهوريّ بالوراثة بعد تعديل فضائحي للدستور ليناسب سنّه آنذاك (34 عاماً)، وهو الشابّ الذي يعاني من عقدة نقص بسبب إبعاده نحو الطبّ وتأهيل أخيه باسل الأسد للرئاسة، لولا أن تدخّل القدر وتوفّي (وليّ العهد) السوري في حادث سيّارة.
انعكس عدم الإحساس بالشرعيّة والأهلية والضآلة تضخّماً هائلاً في الرغبة بتجاوز الأب وتقديم (إنجاز) أكبر بكثير من إنجازه، فاذا كان حافظ الأسد قد كرّس حكمه بتدمير مدينة واحدة (حماة) وقتل عشرات الآلاف من أهلها فإن الابن قام بتدمير المدن السورية الواحدة بعد الأخرى بحيث تجاوز القتلى المئة ألف بكثير وأصبح السوريون يشكلون أكبر مجموعة لاجئين في العالم!
والأمر يتشابه مع فيكتور يانوكوفيتش الذي بدأ حياته (المهنية) بسطو المسلّح سجن سنوات بسببه، ثم الشروع في جريمة قتل، الأمر الذي أدخله السجن مجدداً، ثم تمكّن، للمؤهلات السابقة التي يملكها، من انتهاز فرص مرحلة البيريسترويكا للاغتناء، منطلقاً من أيام السجن إلى الرئاسة بالتعاون مع مافيات المال والسياسة والمخابرات، ثم ختم إنجازاته بطريقة جبانة، هارباً بصناديق الأموال مع زوجته وكلبها إلى روسيا، معلناً من هناك باكياً أنه "الرئيس الشرعيّ لأوكرانيا"!.
عُرف إيفان الرهيب بهذا الاسم لأنه كان يقمع بقسوة وعنف الثورات التي تحدث ضده، كما قاد بطرس الأكبر حروباً عديدة، فارتبط اسما الحاكمين الروسيين بالحروب والتوسّع وكان أحد أركان استراتيجيتهما التوسعية فتح الطرق البحرية لروسيا والربط بين بحار قزوين والبلطيق والأسود انطلاقاً نحو المتوسط عبر تأسيس الأساطيل البحرية واحتلال بلدان متاخمة لروسيا.
من هنا يمكن فهم الأهمية التي توليها الاستراتيجية الروسية بقيادة بوتين لميناءي سيفاستيبول الأوكراني، مقر تمركز الأسطول البحري الروسي، وطرطوس السوري، مقرّ تحركها في البحر الأبيض المتوسط فهما أشبه بحبل السرة الذي يخرج العملاق الروسي من أعماق آسيا الباردة إلى العالم الواسع.
في الصراع الجاري حالياً تلعب شخصيات كبرى، مثل بوتين وأوباما، وصغرى، مثل يانوكوفيتش والأسد، أدواراً تبدو ملحمية، من جهة، ومأساوية / كوميدية من جهة أخرى، وفيما تتنازع أوهام الزعماء على المجد التاريخي المزعوم تتحطّم مصائر شعوب وأمم، وتتكسّر حدود الجغرافيا تحت وطأة الدماء وأشلاء الجثث.
اجتياح القرم والتدخل العسكري في أوكرانيا هي نقلة في الإندفاعة الإمبراطورية الروسية والانكفاء الأمريكي المستمر، ولكنها قد تنقلب لعبة روليت روسيّة خطرة تصيب رأس بوتين نفسه في مقتل وتلجم العدوانية الروسية المنفلتة من عقالها، وتطيح أساليب أوباما الدبلوماسية عن عرش الانكفاء الأمريكي عن العالم.
"القدس العربي" 2/3/2014