"المسلخ السوري" وشراكة العالم في الجريمة

رأي القدس

تبادل وزراء خارجية ومسؤولون عالميون التعليق على قضية الصور المسرّبة من سوريا التي توثّق اغتيال وتعذيب وتجويع 11 ألف معتقل سوري بالطريقة التقليدية التي اعتادوا التصريح بها. بعضهم، كوزير الخارجية البريطاني وليام هيغ وصفها بأنها "شيء بشع وصادم للغاية"، وبعضهم الآخر، مثل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اعتبر ذلك جزءاً من الحرب الإعلامية الدائرة، بل إنه ساوى عملياً بين طرفي النزاع واقترح، ضمنياً، إهمال كلّ ذلك والتركيز "الآن" على "وقف إطلاق النار"، أما المتحدثة باسم وزارة الخارجية الإيرانية مرضيّة أفخم فاعترضت على نشر الصور في هذا التوقيت (أي قبل مؤتمر جنيف 2) واعتبرته "مثيراً للشبهات".

أما الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون فقد رفض (لشدّة تهذيبه الدبلوماسي) أن يعلّق بكلمة على الموضوع، مع العلم أن ديزموند دي سيلفا، رئيس اللجنة المدققة في الصور، هو من الذين كلفتهم الأمم المتحدة نفسها برئاسة قضايا تحقيق سابقة في جرائم حرب في سيراليون (حيث، بالمناسبة، بزغ نجم سيرغي لافروف السياسي كملحق دبلوماسي لروسيا قبل انتقاله لمناصب أعلى).

غير أن أبلغ التصريحات، التي تشرح ردود فعل العالم الحقيقية على المذبحة السورية الممنهجة، جاءت من رئيس البرلمان التركي جميل تشيتشك الذي قال إن "العالم المتحضر يشاهد ما يحدث من أعمال عنف ووحشية، وكأنه يتابع مباراة لكرة القدم"، مستنتجاً أن هذا "العالم المتحضر" لا يهمّه القتل وإنما تهمه الطريقة التي يُقتل بها الناس، "فلقد أصدر المجتمع الدولي بعد استخدام الكيميائي أوامر بعدم استخدام تلك الأسلحة، "وكأنه" يقول لهم اقتلوهم بأي شيء آخر إلا الأسلحة الكيميائية".

لا نصدق أن بان كي مون ووليام هيغ وسيرغي لافروف ومرضية أفخم لا يعرفون ما يجري في "المسلخ السوري"، وهم لذلك، مثلهم مثل الوفد السوري إلى "جنيف 2"، والذي اختير لأن أيدي أفراده "لم تتلطّخ بالدماء"، مشاركون بطريقة أو بأخرى في استمرار هذه المجزرة الواسعة.

فلنعترف إذن أن تجويع وتعذيب 11 ألف معتقل سوري ثم قتلهم خنقاً بالحبال والأسلاك والأيدي (لتوفير الأسلاك ربما او لتوفير متعة أكبر للجلادين بالقتل) أمر لا يهمّ "العالم المتحضّر" كفاية ليتحرّك لمنع المجزرة، وأن على آلاف المعتقلين الآخرين أن يودّعوا العالم بالطريقة نفسها وأن لا ينتظروا عوناً من أحد سوى من ربّهم الذي أسلموا جوارحهم إليه بعد أن أغلقت عليهم الزنازين وسلّط عليهم النظام زبانيته ومجرميه.

بإحالة قضية الصور إلى ألعاب السياسة والإعلام بمعناها المبتذل يقوم الساسة والإعلاميون بإهانة مضاعفة للقتلى وأهاليهم وللشعب السوري وللإنسانية جمعاء.

يتشارك "الساسة" بذلك عطر الجريمة الفوّاح، وكما فعل المسؤولون عن تنفيذ الجرائم من ترقيم للقتلى على الجبين أو الصدر، يقوم المسؤولون في العالم بتخفيض قيمة الأرواح البشرية التي أزهقت بتحويلها الى مباراة في المساجلة الدبلوماسية التي تتأرجح بين "صمت" بان كي مون البليغ وحذاقة مرضيّة أفخم البوليسية وفظاظة لافروف الباردة.

يتشارك الساسة مع وسائل الإعلام في لعبة تحقير الضحايا بإشغال الجمهور بالتفاصيل والتذاكي المبالغ فيه حول من موّل التقرير، وحول توقيته، وحول ضرورة التركيز على الحاضر.. الخ. ناسجين بذلك حبلاً ضخماً من اللغو يعيد خنق الضحايا مرة أخرى ويدفن إنسانيتنا معهم في قبورهم المجهولة المكان.

إصدار التقرير والصور هو الوسيلة الوحيدة التي يشير فيها المقتولون إلى قتلتهم، وهرب عنصر الشرطة العسكرية بضميره المثقل بمشاهد "المسلخ السوري" المروّعة لتوثيق جرائم مصنع القتل الكبير الذي بناه النظام السوري لتهشيم إنسانيتنا هو النافذة الممكنة التي يمكن لأرواح القتلى الممزّقة أن تلاقي أرواحنا المتوجّعة وتلائم إحساسنا اليائس بقدرة البشرية على الفعل.

ما نحتاج إليه، حتى لو لم يتحرّك العالم لإنقاذ السوريين، هو أن يقال للمجرم أنه سيحاسب إذا ثبتت الجريمة، وأي شيء أقل من ذلك لا يعدو أن يكون تمويهاً ومشاركة في الجريمة نفسها.

لا يجب السماح لألعاب السياسة والإعلام بانتهاك أرواح الضحايا من جديد ولا للمجرم أن ينجو بفعلته، المرة تلو المرة، من العقاب.

"القدس العربي" 21/1/2014