السعودية بين تديين السياسة وتسييس الدين

رأي القدس

في إجراء ملفت لا يمكن فصله عن تطورات إقليمية، ومواقف وضرورات سياسية، كشف مسؤول ديني سعودي أنه تم إيقاف عددٍ من خطباء الجمعة وشطب قيد آخرين من بين ما يقرب من (30) خطيباً "تحدثوا في السياسة" خلال خطبهم.

وقال وكيل وزارة الشؤون الإسلامية المساعد لشؤون المساجد الشيخ عبد المحسن آل الشيخ، في بيان إن الوزارة تتابع كل من سجلت عليه حالة سابقة، داعياً "للتعاون والتنسيق بين الجهات ذات الصلة للكشف عن الخطباء الذين يدخلون السياسة في خطبهم".

وأضاف أن "الناس لا يحتاجون للسياسة في منابرهم، وإنما هم في حاجة إلى المواعظ من القرآن والسنة، وما ينفعهم في أمور دينهم، وذلك لا يعني ألا يتكلموا عن الواقع، ولكن يربطونه بتأصيلات شرعية شريطة عدم الميل إلى السياسة أو التحزب".

ربما كان هذا الكلام في ظاهره مقبولاً، بل ومطلوباً، حيث لا يجب أن يستغل منبر الرسول الكريم أو يجعل طرفاً في معارك سياسية أو حزبية، يستتبع التورط فيها ارتكاب أخطاء بل وخطايا، أو التعرض لما لا تليق بما يتمتع به من قدسية ونقاء وترفع. لكن أن تأتي هذه التصريحات من الحكومة السعودية فأن الأمر يستحق وقفة، حيث قد يكون من الصعب أن نجد حكومة استغلت منابر المساجد لتحقيق غاياتها السياسية محلية كانت أو إقليمية أكثر مما فعلت حكومة الرياض.

بل أنه من المعروف أن المملكة السعودية تأسست أصلاً على قدمين اثنتين، الأولى هي عائلة آل سعود التي احتكرت الحكم والإدارة والاقتصاد، والثانية عائلة آل الشيخ كرمز لاحتكار المؤسسة الدينية التي توفر "الغطاء المطلوب" ليتمكن هذا النظام من الاستمرار في القرن الواحد والعشرين بتركيبته وممارساته وسياساته التي يعتبر كثيرون أنها تنتمي إلى القرون الوسطى.

وهكذا استغلت الحكومة السعودية هذا "الأساس الديني للنظام" في تهميش المرأة سياسياً واجتماعياً، باستثناء "مشاركة ديكورية" في مجلس الشورى، حيث من المفترض أن تساهم في قيادة البلاد، بينما هي غير قادرة على قيادة سيارتها بنفسها، ناهيك عن خطاب ديني يتعمد إهانتها بل ويشجع على اضطهادها باعتبار أنها "ناقصة في العقل والدين".

ولم يقتصر الأمر على النساء، بل اتسع نطاق القمع والإهانة ليشمل المجتمع بكل فئاته، إذ تحولت المؤسسة الدينية ذاتها إلى "دولة داخل الدولة" (مع الاعتذار عن استخدام كلمة دولة في هذا المقام)، فأسست الشرطة الدينية "المطاوعة" التي تفرض قانونها الخاص على الناس بقوة الغصب والعنف، بعيداً عن أي رقابة قضائية أو حقوقية أو سياسية لأفعالها، ما أصبح يثير استياء شعبياً كبيراً.

وعلى الصعيد الدولي، روجت الدبلوماسية السعودية للمملكة باعتبار أنها "حامية الدين وزعيمة العالم الاسلامي"، لمجرد وجود الحرمين الشريفين على أراضيها، في شكل آخر من أشكال الاستغلال الصريح للدين.

وبالعودة إلى الخطباء فأن الرسالة، أو الإنذار الحكومي لهم، في غاية الوضوح، وهي ضرورة الانصياع إلى متطلبات السياسة في هذه المرحلة، وهي عدم الحديث في السياسة.

وبكلمات أخرى، أصبح ممنوعاً التحريض على حشد المقاتلين إلى سوريا عبر المنابر، بعد أن تم التوصل إلى "شبه اتفاق دولي" في مؤتمر "جنيف 2" على أن تشجع الرياض المقاتلين السعوديين على العودة من هناك. بالرغم من أن تلك المنابر نفسها هي التي طالما أرسلت "المجاهدين" إلى مختلف بقاع الأرض، ومنها أفغانستان، وبينهم شخص اسمه أسامة بن لادن. (ترى كيف كان سيبدو العالم اليوم إذا صدر هذا القرار السعودي قبل خمسة وثلاثين عاماً؟). ناهيك عن أن خطابها المتطرف كان منبعاً لفكر التنظيمات التكفيرية في اأنحاء مختلفة من العالم.

وبالطبع لن ينطبق هذا "الحظر السياسي" على تملق بعض الخطباء للحاكم أو الدعاء له، مع الاعتذار للخليفة عمر رضي الله عنه الذي قال "لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها"، ولن يعدم هؤلاء عن إيجاد "مخرج شرعي" لتبرير هذه الازدواجية.

إن المطلوب حقاً في السعودية وغيرها من بلادنا العربية، ليس إسكات الخطباء أو غيرهم باعتقالهم أو ترهيبهم، لكن السماح بالحريات الإنسانية الأساسية، وبينها حرية التعبير، وحرية إصدار الصحف وإنشاء الأحزاب، ضمن دولة عصرية حديثة تحترم الدين كمكون جوهري في ثقافة المجتمع، لكن لا تستغله منحاً أو منعاً في ابتزاز المشاعر حسب أغراض النظام أو أهوائه، ولا تسمح بتديين للسياسة أو تسييس للدين.

"القدس العربي" 3/3/2014