السعودية بعد مصر: "مكافحة الإرهاب" أم اختراعه؟

رأي القدس

تجد القيادة السياسية للمملكة العربية السعودية نفسها في وضع لا تحسد عليه، فتركيبتها السياسية، التي قامت على توظيف الرأسمال الديني والريعي لخدمة الحكم المطلق في الداخل، من جهة، والتحالف مع الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، في الخارج، من جهة أخرى، تعرّضت لهزّات كبيرة عبر السنوات استطاعت بقوتها العسكرية والأمنية والمالية النجاة منها، لكنها تقف اليوم حائرة أمام المتغيّرات الداخلية والخارجية الهائلة التي واكبت انطلاق الثورات العربية عام 2011.

بقدر ما كانت السعودية تحصد امتيازات تركيبتها الآنفة الذكر، بقدر ما تبدو اليوم ضحية لتلك الوضعية التي جعلتها خزّاناً سياسياً ومالياً (وعسكرياً عند الضرورة) لما سمّي خلال العقود السابقة، "النظام العربي الرسمي"، والذي كان، لأسباب المماحكة الديكورية أكثر منها البنيوية، ينقسم إلى شقّي "الاعتدال" و"الممانعة".

فالسعودية رفضت الثورات العربية كافة، بما فيها الثورة ضد نظام خصم لها مثل النظام الليبي، وهو ما حصل مع الثورة التونسية (فاستقبلت بن علي بعد هروبه) واستمر مع الثورة المصرية (من تفانيها في دعم وحماية حسني مبارك وصولاً الى مساهمتها في تمويل وشرعنة الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي)، ولم يخرج موقفها في بداية الثورة السورية عن ذلك فقد تلقى الرئيس بشار الأسد في 27 آذار/مارس 2011 اتصالاً من الملك عبد الله وصفه بيان رئاسي سوري بأن "العاهل السعودي أبدى دعم المملكة لسوريا في وجه ما يستهدفها من مؤامرة لضرب أمنها واستقرارها"، وتبع ذلك دعم مادي قدمته الرياض لدمشق في 7 نيسان/أبريل 2011 بقيمة 140 مليون دولار. ولم يتغيّر الموقف الرسمي السعودي إلا بعد انغماس النظام السوري في قمع غير مسبوق لشعبه وهياج الرأي العام العربي والسعودي، اضافة إلى استفحال التدخل الإيراني مما أجج الطابع الطائفي والإقليمي للصراع في سوريا وعليها.

لتجنّب آثار الثورات العربية أصدرت القيادة السعودية في شباط/فبراير عام 2011 قرارات اقتصادية بتثبيت علاوة غلاء المعيشة ودعم برامج الاسكان والعفو عن سجناء الديون ومنح اعانات بطالة الخ، وأتبعتها عام 2013 بقرارات أخرى دفع ثمنها الموظفون والعمال غير السعوديين فتمّ ترحيل مئات الآلاف منهم، وبعد تمكّنها من صدّ آثار "موجة الثورات" أصدرت السعودية مؤخراً أمراً ملكياً يقضي "بسجن أي مواطن يقاتل في صراعات في الخارج ما بين ثلاثة أعوام و20 عاماً"، جاء بعد قانون جديد لـ"مكافحة الإرهاب" صدر الجمعة الماضية، وينطبق على المواطنين السعوديين والأجانب.

والواضح أن قانون "مكافحة الإرهاب" ليس مصمّماً لمواجهة من "يقاتلون في الخارج" فحسب بل يستهدف جماعات الإسلام السياسي المدنية أيضاً مثل "جماعة الإخوان المسلمين"، مكررا ما تمّ الترويج له والتأسيس له في مصر والعراق (ولا ننسى سوريا، الرائدة في هذا المجال، والتي تناهض السعودية حالياً نظامها الجائر لأسباب لا علاقة لها باستبداده وجوره)، من خلط مقصود بين تنظيمات السلفيّة المسلّحة المتأثرة بـ"القاعدة" وتنظيمات الإسلام السياسي التي ترفض العنف وتواجه الاستبداد بالطرق السلمية والمدنية المعروفة.

يفسّر موقف القيادة السعودية من الثورات العربية أيضاً موقفها تجاه شعبها فهي تواجه أبسط الحقوق الانسانية المشروعة بالقوة والعنف، أو تستخدم الرشاوى المالية الموجّهة خصوصاً الى الجيش الجرار من موظفي الدولة والمعتاشين على ريعها.

أوقعت هذه البنية المحافظة للمملكة العربية السعودية قيادتها في مأزق تاريخي ووجودي كبير لن تستطيع، في النهاية، الهروب من استحقاقاته، وهي تدفع، بالتقسيط غير المريح، أثمانه الكبيرة، تراجعاً عالمياً وإقليمياً في وزنها السياسيّ والاقتصادي والاجتماعي والدينيّ والأخلاقي.

لا تمنع هذه القيادة الشائخة المحافظة في السعودية شعبها من التقدّم فحسب، بل تمنع حتى إمكانيات الأجيال الشابة منها لتبوؤ أمكنة قادرة على فتح نوافذ صغيرة للضوء والتطوّر، وهو ما ينذر بعواقب وخيمة.

قانون "مكافحة الإرهاب" على الطريقة السعودية هو قانون مصمّم لإدامة الحكم المطلق ومنع أي نغمة تذمّر، وبتجريمه الكفاح السلمي كإرهاب يفتح الباب رسميّاً لشعبية أكبر للإرهاب.

"القدس العربي" 4/2/2014