لمن يقرع الرئيس بوتين أجراس الحرب؟
سليم نصار – كاتب وصحافي لبناني / لندن
مطلع الشهر الماضي، وصلت إلى القاعدة الأميركية - الإسبانية المشتركة "روتا" السفينة الحربية الأولى المسجلة ضمن منظومة الدرع الصاروخية.
اتصلت موسكو بمدريد لتسألها عن الهدف من استقبال سفينة حربية أميركية، الأمر الذي ينزع عن إسبانيا صفة الدولة المحايدة.
جواب مدريد أكد مصادقتها سنة 2011 على استقبال منظومة الدرع الصاروخية في قاعدة "روتا" الواقعة عند المدخل الغربي لمضيق جبل طارق. ثم أبلغتها أن البنتاغون سينشر أربع مدمرات بهدف حماية سلامة أوروبا الغربية، إضافة إلى الفضاء الأميركي. وادَّعت مدريد أن صواريخ المدمرات معدة لاعتراض صواريخ إيران وكوريا الشمالية.
ولم تقتنع موسكو بهذا التفسير لأن الاتفاق النووي حول المشروع الإيراني يفرض على واشنطن تجميد نشاط منظومة الدرع الصاروخية. ولما أنكرت واشنطن هذا الالتزام، سارعت موسكو إلى إعلان نيتها نشر سفنها الحربية في البحر الأبيض المتوسط بغية التصدي لمنظومة الدرع الصاروخية الغربية.
ويُستَدَل من طبيعة حملات الاعتراض الروسية، أن موسكو متضايقة من نشر الدرع الصاروخية الأميركية في عدد من الدول الأوروبية مثل رومانيا وبولندا. ولهذا السبب هدد الرئيس فلاديمير بوتين بالانسحاب من اتفاق "الحد من ترسانة الأسلحة الاستراتيجية" في حال استمرت هذه العمليات الاستفزازية.
وقد برر وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل موقف بلاده بالقول "إن شبكة الدفاع المضادة للصواريخ في أوروبا هي بمثابة رد وقائي على التهديد الذي تمثله الصواريخ الباليستية الإيرانية."
شكوك موسكو حيال عمليات التطويق والتهديد تذهب في الاعتراض إلى أبعد من ذلك بكثير. وهي تزعم أن واشنطن استغلت انشغالها في أولمبياد سوتشي الشتوي كي تحرِّض المعارضة في كييف على التمرد ضد حليفها الرئيس فيكتور يانوكوفيتش.
والثابت أن الرئيس بوتين وجد في الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش الحليف الذي يركن إلى قدرته الشخصية من أجل إبعاد البلاد عن أجواء الثورة البرتقالية (2004). وترى موسكو في تلك الثورة مزيداً من التحريض الخارجي بهدف فصل شرق أوكرانيا عن غربها. أي فصل الجزء الأوراسي، صاحب التقاليد الروسية والتبعية الثقافية... والجزء المتاخم لبولندا ورومانيا الذي يميل الى ربط البلاد بدول التحالف الأوروبي وفضاء الولايات المتحدة.
وسبق لبوتين أن خاض معركة شرسة ضد جورجيا لمنع التحاقها بالتحالف الأطلسي، والحؤول دون سقوطها في أحضان الدول الغربية. لهذا السبب وسواه، قامت موسكو بخطوة غير مسبوقة تجاه (كييف) عندما حررتها من التزامات قرض صندوق النقد الدولي، وذلك عبر اتفاق تعهدت فيه بشراء سندات حكومية أوكرانية بقيمة 15 مليار دولار.
خلال تلك المرحلة، هدد الرئيس الأوكراني بملاحقة زعماء المعارضة، متهماً إياهم بالسعي إلى الاستيلاء على الحكم. وقد فرضت السلطات الأمنية ما يشبه حالة الطوارىء، معلنة إغلاق (المترو) بغرض التخفيف من دخول المواطنين في اتجاه العاصمة.
عقب تصعيد عمليات العنف، وسقوط قتلى من الطرفين، دخلت الأزمة الأوكرانية مرحلة التدويل، الأمر الذي دعا وزير خارجية ألمانيا إلى التدخل العاجل. وتبعه على الفور نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي امتنع عن أخذ موقف منحاز إلى المعارضة، وإنما شدد على أهمية إجراء حوار بين زعمائها والحكومة.
أما موسكو فقد أصدرت بياناً رسمياً دعت فيه زعماء المعارضة إلى وقف سفك الدماء والعودة إلى طاولة الحوار مع السلطة. أي أنها اتخذت موقفاً محايداً، بعيداً عن تهديدات الرئيس الأوكراني وأجهزته الأمنية.
وتقول الصحف أن موقف بوتين المفاجىء، خضع لسلسلة اعتبارات أهمها القرار الذي اتخذه يانوكوفيتش لسحق المعارضة بواسطة القوات الخاصة المسماة (أوميغا)، وهي كلمة يونانية تعني (النهاية)، والقوات هذه مدربة على العمليات الاقتحامية الخطرة، وعلى الدفاع عن سلطة الرئيس.
ويرى المحللون أن الرئيس الروسي كان يتطلع إلى الصورة القاتمة التي ستظهر من وراء اقتحام ساحة الاستقلال بواسطة 2500 عنصر من الـ(أوميغا) أعدهم يانوكوفيتش لطرد المعتصمين والمعتصمات. واستناداً إلى الوقائع السابقة، فأن بوتين تخوَّف من حدوث مجزرة لن يكون هو بمنأى عن نتائجها السلبية.
وللتدليل على ظهور موسكو بمظهر الدولة المحايدة في هذا النزاع الداخلي، تعمَّد ممثل الرئيس فلاديمير بوتين عدم حضور مراسم توقيع الاتفاق.
نهاية الأسبوع، سيطرت المعارضة الأوكرانية على السلطة في كييف. وكان آخر ظهور ليانوكوفيتش في مدينة دونتسيك التي حاول الهرب منها على متن طائرة برفقة حراس مسلحين. وقد وجهت إليه الحكومة المؤقتة تهمة القتل الجماعي، وقررت ملاحقته بعد عزله.
وبحسب البيانات الرسمية، فهو حالياً يوجد في شبه جزيرة القرم على البحر الأسود، والتي تتمتع بحكم ذاتي. وربما اختار له بوتين هذا الملجأ المعزول كي يتحاشى تسليمه في حال دعي للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. هذا، مع العلم بأن رئيس وزراء روسيا ديمتري ميدفيديف، أعلن بأن حكومته لا تعترف بشرعية السلطة الجديدة في أوكرانيا.
وقد استخدمت موسكو هذا المنطق للدفاع عن نظام حليفها السوري بشار الأسد، معتبرة تمرد الائتلاف المعارض عملاً غير شرعي لا يجوز الاعتراف به. لذلك انتقد وزير الخارجية سيرغي لافروف زيارة مسؤولة العلاقات الخارجية لدى الاتحاد الأوروبي، كاثرين اشتون، لكييف، ووصف مهمتها في أوكرانيا بأنها غير متوازنة كونها تؤيد حكومة غير شرعية.
كذلك وصل إلى كييف مساعد وزير الخارجية الأميركية، وليم بيرنز، بهدف الإطلاع على الحاجات الاقتصادية الملحة، وذكرت الإدارة الأميركية أن الرئيس باراك أوباما أرسل مذكرة إلى جميع السفراء بضرورة مراعاة كبرياء الشعب الروسي، والتعاطي بحذر واعتدال مع أزمة أوكرانيا.
ثم اتصل يوم الجمعة هاتفياً بالرئيس الروسي بوتين، نافياً له إدعاءات كبار الموظفين بأن الولايات المتحدة متورطة في مؤامرات شبيهة بمؤامرات الحرب الباردة. وتقول مصادر البيت الأبيض إن المكالمة استغرقت ساعة كاملة، ارتكزت خلالها أجوبة بوتين على رؤيته لأوكرانيا بأنها تقع في دائرة نفوذ روسيا.
ولما قال أوباما أن مستقبل أوكرانيا يحدده الأوكرانيون وليس الولايات المتحدة أو اوروبا، أو حتى روسيا، أجاب بوتين على الفور: وماذا عن مستقبل جورجيا ومولدوفا؟ وكان بهذا التلميح يشير إلى الاغراءات الاقتصادية والسياسية التي قدمتها واشنطن لجورجيا بحيث تنضم إلى الحلف الأطلسي.
عقب الانتكاسة السياسية التي مُنيت بها روسيا في أوكرانيا، شعر الرئيس بوتين بالإحراج، لأن الخلافات الحادة لدى جارته المفضلة قد تنقل نظام الحكم إلى الفيديرالية أو الكونفيدرالية. ومثل هذا التغيير قد يعرض بلاده لخطر عدوى التفكك الداخلي. لذلك سارع إلى معالجة أزمة الارتدادات المتوقعة بإجراء أوسع مناورات حربية عرفتها روسيا منذ وقت طويل.
في نهاية الأسبوع الماضي، استغل المعلق والكاتب الأميركي - الهندي فريد زكريا، منبره الإعلامي في قناة "سي أن أن" كي يستضيف زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر.
والسبب، أن هذا المستشار هو صاحب نظرية "احتواء أوكرانيا" لأنها، في رأيه، تمثل قاعدة الانطلاق لطموحات روسيا التوسعية. وبناء على هذه النظرية شجع بريجينسكي الدول الغربية على اقتناص الفرصة لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. عندئذ تصبح روسيا معزولة وعاجزة عن تخطي حدودها الطبيعية.
بقي السؤال المتعلق بتأثير الأزمة الأوكرانية على دور روسيا في سوريا. يتمتع النظام السوري منذ السبعينات بعلاقة تاريخية وثيقة مع موسكو، دشنها الرئيس حافظ الأسد. ثم جدد تلك العلاقة نجله الرئيس بشار عندما زار موسكو سنة 2005. وكافأه الرئيس بوتين بإلغاء ما نسبته سبعين في المئة من الديون لروسيا (13.4 مليار دولار). ورد بشار على تلك المكافأة بمنح البحرية الروسية وجوداً دائماً في ميناء طرطوس.
وعلى عكس ما يتوقعه الأميركيون، فأن خسارة أوكرانيا ستقوي حضور روسيا على البحر الأبيض المتوسط كتعويض عن خسارتها الكبرى في البحر الأسود.
"النهار" بيروت 1/3/2014