نصّ اللقاء التاريخي بين بدر شاكر السياب وميشيل عفلق(*)
هناك من يسميه الرجل الصامت - لأنه يفكر ويجسد أفكاره حقائق تنبض بالحياة وبدفء القلب الإنساني، أكثر مما يقول.
وهو لا يتكلم إلا حين يشعر أن كلامه هذا هو عمل يخدم به القضية الكبرى التي كرس لها حياته، وكل طاقاته الفنية وإذا نطق أدركت أن هناك رصيداً ضخماً من الفكر والثقافة وراء كل كلمة يقولها.
هو ثروة ضخمة من ثروات هذه الأمة الخيرة الطيبة التي أنجبت الأنبياء والصديقين والشهداء والمفكرين والأبطال والشعراء.
يكفي أن جزءا من فلسفته، ليس أعمق أجزائها ولا أغناها بالقيم الخالدة، قد أصبح الفلسفة السياسية الرسمية للجمهورية العربية المتحدة. وأن أفكاره هي المسؤولة إلى حد كبير عن تفجير الطاقات الهائلة لهذا الشعب العربي الذي يحرز في كل يوم انتصارات رائعة في كل جزء من أجزاء وطنه الكبير من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.
لم تكن مقابلتي له في بغداد حيث يحل ضيفاً كريماً على الجمهورية العراقية، أول لقاء بيننا، فقد سبق لي أن زرته في مدينة العروبة الخالدة، دمشق بعد أن عرجت عليها عائداً من بلودان ومؤتمر الأدباء العرب الثاني الذي انعقد فيها قبل حوالي العامين وجلست إليه يومها مذهولاً أحس في صمته كيان أمة برمتها يتنفس عبر الأجيال وينبعث من رماده وناره، كما تنبعث العنقاء الخالدة من نارها ورمادها في أروع انبعاث وأعظم ميلاد. وأحس في كلماته روح أمة ورسالة أمة وثورة أمة ودار الحديث يومئذ في جملة ما دار حول الشعر الحر. وكان الأستاذ ميشيل عفلق مع الشعر الحر كحركة وكإمكانية قابلة للعطاء، وكان قد اطلع على بعض ما كتبه عدد من الشعراء العرب المعاصرين كعلي الحلي ونزار القباني وكاتب هذه السطور من الشعر الحر، فأعجب به وقلت له أننا نخشى أمراً واحداً هو أن يكون شعرنا الحر هذا مقطوع الصلة بتراثنا الشعري، وألا يحمل ملامح من شعر طرفة بن العبد والمتنبي وأبي تمام وعباقرة الشعر العربي الآخرين، لأنه لن يكون له أية قيمة كشعرعربي - آنذاك، غير أن المفكر الكبير قال أنه يحس بتلك الملامح في القصائد الجيدة من شعرنا الحر.
سرعان ما تحول بنا مجرى الحديث إلى الفلسفة التي تغلغل ميشيل عفلق بفكره وقلبه إلى ضمير الأمة العربية فاستخرجها منه وسألته:
متى
تكونت لديك الخيوط الأولى لهذه الفلسفة؟
فأجاب: لدي تحفظات في هذا الأمر، الأول منها: أنني لا أسمي الأفكار التي ناديت بها طوال هذه السنوات الخمسة عشر فلسفة، وثانيها: أنني لا أعتبر نفسي فيلسوفاً ولا أعتبر أفكاري فلسفة، ذلك أن الفلسفة هي الأفكار المترابطة التي تؤلف بمجموعها نظرة معينة إلى الحياة.
وأطرق فيلسوف معركة البقاء والخلود والعطاء التي تخوضها الأمة العربية ثم واصل الحديث قائلاً:
كان الفكر وما يزال يحتل مركزاً كبيراً عندي، ولكن عملي القومي خلال السنوات الخمسة عشر وقبلها، لم يكن عملاً فكرياً وإنما خلق حركة، للفكر فيها مكان أساسي، ولكن الحركة هي الأمل والهدف وهذا ما يفسر وجود ثغرات في تلك الأفكار التي تسميها أنت فلسفة، كان العمل أهم من تكوين فلسفة وكان يلح علينا فنلبيه، على حساب تنظيم الفكرة وتنسيقها وتوسيعها.
وأصررت من جديد على أن هناك على الأقل نواة لفلسفة واضحة، فقال الأستاذ عفلق: يمكن القول بأن هناك فكرة أساسية مجملة كانت كافية لانطلاق الحركة أما ما ظهر بعد ذلك من توسيع وتطوير وتصحيح لهذه الفكرة فقد جاء نتيجة للعمل وللتجربة.
وعدت
أسأله من جديد عن الخيوط الأولى لهذه الفلسفة: متى ولدت؟
فأجاب: إن فكرتنا، فلسفتنا القومية، بلغت درجة الوضوح والتماسك قبيل الحرب العالمية الثانية، بعد تجارب فكرية وعملية وبعد الإطلاع على المذاهب الفكرية السياسية المعاصرة كالماركسية وسواها من المذاهب الفلسفية والسياسية المختلفة وبعد تكون خميرة أدبية من المطالعات وقراءة الشعر والقصص والروايات.
وذكرت
الأستاذ ميشيل عفاق بأنه كان شاعراً ممتازاً ذات يوم قبل أكثر من عشرين عاماً وأنني
قد اطلعت منذ سنوات على إحدى قصائده القديمة فأعجبت بها غاية الإعجاب وأنه أديب
بالإضافة إلى كونه فيلسوفاً فقال:
لقد بدأت حياتي بالأدب ومع ذلك فلا أريد القول بأنني أديب وكنت أعطي القيمة الأولى للأدب والأدباء في الفترة بين سن الخامسة عشرة والعشرين، ولكن نوع الأدب الذي كنت أقرأه حتى في صغري كان على الأكثر أدباً فلسفياً، فقد قرأت المعري مثلا لزومياته وسقط زنده وأنا في السادسة عشرة من العمر وانتقيت لنفسي مختارات من اللزوميات، وكذلك المتنبي قرأته وأنا في تلك السن نفسها ولما ذهبت إلى باريس للدراسة بعد حصولي على البكالوريا كان الأدباء الذين أغرتني كتبهم: أدباء مفكرين، لذلك كان من الطبيعي الانزلاق من الأدب إلى الفلسفة وأول فيلسوف تعرفت عليه عن طريق الأدب هو "نيتشه" وقد شغل مكاناً خاصاً في مطالعاتي، كما أعجبت غاية الإعجاب بالقصصي الروسي دوستويفسكي.
وتحدث
المفكر العربي بعد ذلك عن أهمية التراث الأدبي والفني في الاتجاه السياسي، فقال:
إن هذا التراث هو الذي يخلق في النفس عمقاً ولا يشترط فيه أن يكون واضحاً أو مفهوماً فقد كنت مثلاً، أمتص الآثار الأدبية والفنية التي أصادفها ولا أقرأها كناقد، إن تراكم المطالعة يخلق خميرة من العمق والغنى الروحي أعتقد أن لها أثراً غير قليل في تجنيب التفكير السياسي والاجتماعي خطر السطحية وخطر الابتعاد عن طبيعة النفس الإنسانية وحقيقة متطلباتها، كما أنه يمكننا من معرفة أبعاد النفس الإنسانية وغناها.
وسرح المفكر الشاعر وكأنه وهو يتابع حلقات الدخان بعينيه - يتابع أسراباً، من الذكريات بذهنه وارتسمت على شفتيه ابتسامة فيها من العطف والأسى والإشفاق ما لا يتسع له غير قلب كبير ثم قال: لي تجربة في الموضوع مع الآخرين، فقد مررت - ضمن الحركة وخارجها - بأشخاص فاقدين لهذا التراث الروحي، فكانوا عرضة للشطط والخطأ الفظيع في الاتجاهات، لأن تفكيرهم يكون مجرداً، رياضياً، وتنطلي عليهم سفسطات المنطق الصوري الجامد.
وعاد
بنا الحديث من جديد إلى الفلسفة القومية التي كان هذا المفكر العربي رائدها. وسألته
عن رأيه فيما قال بعض قادة الفكر، في يوغوسلافيا من أن الفلسفة التي جاء هو بها،
والحركة التي انبعثت منها منذ عام 1943 وراحت تواكبها فتغنيها وتغني منها.. إنما
يقدمان للإنسانية حلاً جديداً لمشاكلها التي عجزت فلسفات كثيرة عن حلها.. لقد سألت
فيلسوفنا العربي عما إذا كان معتقد أن الفلسفة تقدم مثل هذا الحل لا على الصعيد
القومي العربي وحسب، وإنما على الصعيد الإنساني؟
فأجاب: كنت أثناء مطالعاتي كلها أفتش عن الأصول.. أصول هذه الفلسفة وخلقت هذه المطالعات في نفسي تلك الخميرة الأدبية والفلسفية التي تحدثت عنها، فجاءت الفكرة، حين جاءت - على مستوى إنساني لا على مستوى قومي خاص. إن في هذه الفلسفة محاولة اكتشاف للحقيقة القومية وبالتالي للحقيقة القومية العربية، وإعطاء هذه الحقيقة مكانتها المشروعة بين الحقائق الإنسانية الخالدة وإظهار ايجابيتها، وهي - لهذا - لا يمكن أن تصطدم أو تتعارض مع الاتجاه الإنساني، ذلك لأنها حقيقة قومية إيجابية.
وسألت
المفكر العربي الكبير: بعد النجاح الهائل الذي حققته هذه الفلسفة بحيث تجسدت سياسة
رسمية تسير عليها الجمهورية العربية المتحدة.. ما هي المرحلة التالية؟
أجاب: كنت أعتقد أن المهمة التي تنتظرنا هي أشبه ما تكون بالمهمة التي كانت تنتظر أجدادنا العرب - إبان الفتح العربي الإسلامي - من إعادة جماهير الشعب العربي - وخاصة في العراق الذي كان الفرس يحكمونه وسورية التي كان الروم يحكمونها، إلى حظيرة الأمة العربية.
ذلك أن جماهير الشعب العربي حسب هذا الوهم لا تعي من عروبتها سوى هذه الكلمة الدارجة التي تتكلمها وسوى قولها - نحن عرب.
ثم بدد الأستاذ عفلق وهماً.. قال المفكر العربي الكبير: إن الشعب ما زال أغنى وأعمق من قادته وما زال يفاجيء القادة باستمرار، فهو نزاع إلى القيم الأصيلة المطلقة وهذا هو ما يربطه بتاريخه.
وتمهل الأستاذ ميشيل عفلق قبل أن يستطرد قائلاً: إن ما حققناه حتى الآن كان نتيجة تطبيق جزئي - وفي بعض الأحيان سطحي - لهذه الفلسفة والشيء الرسمي أو الحكومي الذي أشرت إليه مازال بعيداً عن الفهم العميق الكامل المتماسك لفلسفة القومية العربية.
إن انتصارات القومية العربية الأخيرة كان من الممكن أن تكون أقوى وأكمل لو أنها استندت إلى فهم أكمل وأعمق لهذه الفلسفة. فهناك إذن مجال واسع للتصحيح والتعميق.
لعل انعزالنا نحن المثقفين في العراق عن جماهير الشعب العربي (لأسباب كان إرهاب العهد البائد أحدها) في حين أن القادة - بنسب مختلفة طبعاً - لم يبلغوا بعد، الثقة المطلقة التامة بالقيم والمباديء التي ينادون بها. وهم - لذلك - لم يبلغوا الثقة التامة بالشعب وإمكانياته.
نحن اليوم في وسط الطريق، لقد سجلنا ارتقاء محسوساً بالنسبة إلى المرحلة السلبية التي كان يقودها زعماء من طبقة غريبة عن الشعب بعيدة عنه، وكانت مهمة هذه الطبقة وعملها، خنق إمكانيات الشعب بدلاً من تفجيرها.
وحين ودعت أستاذنا الكبير، وفيلسوفنا العربي المناضل.. كنت أشعر وكأنني استوعبت - خلال هذه الساعة التي قضيتها معه، منصتا إليه - القرون الطويلة من تاريخ هذه الأمة العربية التي كانت وما زالت تنجب الأنبياء والشهداء والفلاسفة والأبطال والشعراء.
بغداد في آب 1958
(*)
مأخوذ عن كتيب من منشورات مدرسة الإعداد الحزبي، وقد سبق لجريدة "الجمهورية"
البغدادية في سنتها الأولى وفي العدد الثاني بتاريخ 9 آب 1958 أن نشرت لقاء مع
القائد المؤسس الرفيق ميشيل عفلق أجراه الشاعر المرحوم بدر شاكرالسياب. ولأهمية تلك
المقابلة وأهمية اعتباراتها الأدبية والثقافية، فقد أعادت صحيفة "الثورة" نشرها في
عددها 1649 الصادر بتاريخ 27 كانون الأول 1973.