الحوار الغائب.. الحوار الحاضر.. مصارحة لا بد منها (2 - 2)

خريطة طريق لضوابط وضمانات الحوار

بقلم: السيد زهره

ذكرت في المقال السابق أنه لا أحد يعترض على الحوار الحالي بداهة من حيث المبدأ، لكن الذي يتطلع إليه الكل هو ان يأتي هذا الحوار ونتائجه ملبيا لتطلعات الشعب والمصالح الوطنية بشكل يرضى كل أبناء الوطن.

وذكرت أنه لهذا السبب، يجب الاجتهاد من جانب الكل في تقديم تصوراتهم ورؤاهم للمبادئ والأسس والضوابط والضمانات التي يجب أن يقوم عليها الحوار.

وهذا بالضبط هو ما سنطرحه في حديث اليوم. سنقدم ما نتصور انه المبادئ والضمانات والضوابط الأساسية التي يجب ان تحكم الحوار.

***

بديهيات

بداية، هناك عدد من الأمور المتعلقة بالحوار نظن أنها من البديهيات، وأن هناك اتفاقاً عاماً حولها من جانب كل أو أغلب أبناء المجتمع، هي:

1 - إن الحوار الحالي يجب أن يكون خطوة أساسية كبيرة ويلعب دوراً ملموساً في لمّ الشمل الوطني، ونحو إنهاء الانقسام الحاد الذي يشهده المجتمع حالياً. الحوار يجب أن يوحد ولا يفرق.

وليس مقبولاً بالطبع أن يكون الحوار هو بحد ذاته تكريساً للانقسام والفرقة في المجتمع، أو مفجرا لانقسامات جديدة.

2 - إن الحوار من حيث طبيعته ومن حيث نتائجه، يجب أن ينهي الأزمة، ويمكن الدولة والمجتمع من تجاوز الأوضاع الحالية، لا أن يفجر هو نفسه أزمة جديدة، أو يفاقم الأوضاع الحالية.

وليس مقبولاً هنا مثلاً أن تؤسس نتائج الحوار لأوضاع طائفية جديدة تدخل المجتمع في أزمة أخرى. كما ليس مقبولاً مثلاً أن تأتي نتائج الحوار يما يمكن أن يهدد هوية الدولة والثوابت الوطنية.

3 - إن نتائج الحوار يجب أن تكون مقبولة من كل أبناء وقوى وطوائف المجتمع ومحل رضاهم، وألا ترى أي قوة أو فئة أو طائفة أن هذه النتائج تنطوي على ظلم لها أو إجحاف بحقها.

وباختصار، المفروض أن يكون الحوار وما ينتج عنه تأسيسياً لمرحلة جديدة من العمل الوطني الذي يحفظ كيان الدولة وهويتها وثوابتها ويمضي في نفس الوقت بمسيرة الإصلاحات المنشودة إلى الأمام، وأن يكون فاتحة لمرحلة جديدة من الوئام الوطني.

هذه المبادئ العامة نظن أنها بديهية ومحل اتفاق عام، أو شبه عام.

ولكي تتحقق هذه المبادئ، هناك كما ذكرنا في البداية ضمانات وضوابط محددة يجب ان تتوفر منذ البداية، وهي تتعلق بجوانب ثلاثة:

المناخ العام للحوار

مرجعية الحوار

ضوابط وضمانات الحوار

وفيما يلي سنطرح تصورنا لهذه الجوانب الثلاثة، والتي يمكن أن تشكل خريطة طريق للحوار.

***

مناخ الحوار

من المفهوم بداهة أن الحوار الحالي، بغض النظر عن صيغته وما سوف يناقشه وما يمكن أن ينتج عنه، هو كما كان الحال مع الحوار السابق، لا يمكن ان ينجح على النحو المنشود، ما لم يكن المناخ العام في المجتمع مواتيا لتقبل الحوار في حدج ذاته، ولتقبل نتائجه بعد ذلك.

والكل يعلم أن المناخ العام الحالي السائد في المجتمع هو مناخ من الشكوك المتبادلة ومن عدم الثقة المتبادلة، ومن التربص المتبادل. هذا هو المناخ العام ليس على صعيد مختلف الجمعيات والقوى السياسية في المجتمع وحسب، ولكن على مستوى أبناء المجتمع أنفسهم.

ولسنا نبالغ أو نتجنى حين نقول أن "الوفاق" والجمعيات التابعة لها، هي التي تتحمل المسئولية الأساسية لتوفير هذا المناخ.

لماذا؟ .. لأن الدولة والقيادة قدمت المبادرة تلو المبادرة، وفتحت أبواب الحوار مرة بعد أخرى رغم كل شيء، وأبدت الاستعداد الكامل لتقبل أي إصلاحات يتم التوافق عليها.

والدولة تغاضت كثيراً عن تجاوزات لا حصر لها، وعن أعمال عنف وإرهاب وتحريض سافر عليها.

والدولة، اعترفت بأخطائها وعالجت أغلبيتها الساحقة، بقبولها لتوصيات لجنة بسيوني وتنفيذها لها.

لكن بالمقابل، أشاعت "الوفاق" والقوى الأخرى المتطرفة مناخاً من الطائفية ومن الترويع للمواطنين منذ تفجرت الأحداث.

وحتى يومنا هذا، لم يعترفوا ولو بخطأ واحد ارتكبوه، ولم يظهروا أي استعداد لتصحيح أو لترشيد أي من مواقفهم وتصرفاتهم.

ولهذا، ليس من الغريب أن يعتبر قطاع كبير جداً من أبناء المجتمع أنهم ليسوا أهلاً للحوار، وليسوا أهلاً لمنحهم الثقة.

ولهذا، نقول أنهم يتحملون المسئولية الأساسية لتوفير المناخ المواتي للحوار، ومحاولة إثبات انهم أهل للثقة.

وعلى أي حال، فإن المطلوب في تقديرنا في هذا الجانب، أي لتوفير ولو قدر معقول من المناخ المواتي للحوار، أمرين بصفة أساسية:

الأمر الأول:

أن تعلن "الوفاق" والجمعيات التابعة لها، وقبل انطلاق الحوار، تعهدها بوقف كل الاحتجاجات طوال فترة الحوار.

نقول، وقف كل الاحتجاجات، وليس فقط التعهد بوقف وإدانة أي عمل من أعمال العنف.

هم أعلنوا بعد اللقاء مع سمو ولي العهد انهم متمسكون بالاستمرار في كل اشكال الاحتجاجات السلمية، باعتبار أن هذا حق كفله الدستور!.

بالطبع، الاحتجاج السلمي حق دستوري. لكن القضية هنا أنهم يجب أن يثبتوا للمجتمع بوقفهم لهذه الاحتجاجات أنهم جادون فعلاً في الحوار، وأنهم حريصون فعلاً على إنجاحه، وعلى طمأنة المجتمع إلى جديتهم وحرصهم.

هذا أمر. الأمر الآخر، أنه ليس مناخاً مواتياً ولا صحياً للحوار، أن يمضي في ظل ابتزاز الشوارع والتهديد والوعيد.

قبل يومين فقط، قال الشيخ علي سلمان في حديثه مع جريدة "الوسط": "الرفض لأي عمل عنيف مستمر، ولكن نتفهم سبب ذلك العنف"!.

ما معنى أن يتفهم أسباب العنف؟ معناه أنه لا يدينه بل ويتقبله. بل معناه أنه في حقيقة الأمر لا يرى بأساً من استمراره.

ليست هذه روح، وليس هذا مناخ يمكن ان يجري فيه الحوار.

الأمر الثاني:

نرى أيضاً لتوفير مناخ موات للحوار، أنه من الضرورة القصوى أن تقدم الجمعيات المشاركة في الحوار، وقد تنضم إليها قوى أخرى في المجتمع، على خطوة عملية محددة تنفيذاً للتوجيهات الأخيرة لجلالة الملك، حين وجه بضرورة التصدي للكراهية والطائفية والعمل على تكريس التسامح في المجتمع.

في تقديرنا أنه قبل أن يبدأ الحوار بين هذه القوى، أو كجزء من الحوار نفسه، وبعيداً عن الخلاف أو الاتفاق حول القضايا المباشرة المطروحة على الحوار، أن تلتقي هذه الجمعيات والقوى في لقاء مشترك، تتفق فيه على وثيقة مشتركة تتعهد فيها بوقف كل أشكال التحريض الطائفي على أي مستوى سياسي أو إعلامي أو عبر المنابر الدينية. وتتفق فيها على مبادئ عامة للوحدة الوطنية والتسامح والتعايش المشترك. وسيكون أمراً جيداً جداً، لو أن لقاء مثل هذا تبنى مبادرات مشتركة في هذا المجال.

مرة أخرى، مثل هذه الخطوة مهمة جدا في تقديرنا لطمأنة المجتمع، وإقناعه بجدية هذا الحوار والمشاركين فيه.

ولو كانت النوايا صادقة، المفروض أن تدرك "الوفاق"، وأيضاً كل الجمعيات والقوى في المجتمع أن هذه القضية هي أصلاً أكبر وأهم من أي حوار سياسي، وأن الاضطلاع بهذه المهمة هي مهمة وطنية في كل الأحوال، وأن خطوة كهذه ستكون عاملاً أساسياً لإجراء الحوار في أجواء ايجابية ولإنجاحه.

***

مرجعية الحوار

قبل أن ينطلق الحوار السابق الذي فشل، كنا قد نبهنا بوضوح إلى هذه القضية، وعبرنا أن عدم حسمها خطأ فادح. للأسف يتكرر هذا الخطأ نفسه الآن.

نعني أنها ضرورة حاسمة تحديد مرجعية الحوار بشكل حاسم، وتعهد "الوفاق" وكل الجمعيات المشاركة في الحوار خطياً بهذه المرجعية.

والأمر هنا أن مرجعية الحوار هي بالضرورة، الدستور والميثاق الوطني، والقوانين العامة في البلاد.

ويعني هذا:

1 - أن الكل يجب أن يقر أن هذا الحوار يجري، ويجري فقط، تحت سقف هذه المرجعية، وتحت سقف هذه الشرعية، شرعية الدستور والميثاق والقانون.

2 - أنه لن يكون مقبولاً طرح أو إقرار أي شيء في الحوار يتناقض مع هذه المرجعية أو يخرج عنها، أو عن الثوابت الوطنية العامة التي ترسيها هذه المواثيق.

لماذا نقول أنه يجب التعهد كتابة بالالتزام بهذه المرجعية للحوار؟

السبب معروف وهو أنه كما سبق وذكرنا، قادة "الوفاق" سبق وأن أعلنوا صراحة أنهم لا يعترفون لا بالدستور ولا بالميثاق ولا بالقوانين ولا بشرعية النظام.

وإن لم يكونوا مستعدين للالتزام بهذه المرجعية فسوف يكون من العبث والتفريط في الثوابت الوطنية أن يجري الحوار أصلاً.

***

مبادئ وضوابط

بالإضافة إلى ما سبق، هناك عدد من المبادئ والضوابط التي يجب في تقديرنا ان تحكم الحوار، وألا يخرج عنها، هي على النحو التالي:

أولاً: لا محاصصة طائفية بأي شكل، وفي أي إطار، وبأي صيغة، وعلى أي مستوى.

لا يجوز أبداً ومن المرفوض رفضاً باتاً، أن ينتج عن هذا الحوار أي شيء يرسي مسألة المحاصة الطائفية في أي مجال، كتوزيع وزارات مثلاً أو مناصب عامة، أو في توزيع الدوائر الانتخابية مثلاً.. وهكذا.

ليس مقبولاً، ومن المرفوض رفضاً باتاً الأخذ بأي مقترح أو مطلب لا يكون على أسس وطنية جامعة، لا طائفية.

هذه مسألة لا يمكن أن يكون حولها أي مساومة. وأسباب ذلك معروفة.

فكما سبق وكتبت في مقال سابق، الأخذ بهذه المحاصصة في أي إطار وعلى أي مستوى، ستكون كارثة تفتح أبواب جهنم لن يكون بمقدور أحد سدها بعد ذلك.

ثم أنه إذا كان المقصود هو التوصل إلى نتائج من الحوار تدعم العملية الديمقراطية والدولة المدنية، وتدعم الوحدة الوطنية، فأن أي محاصصة طائفية تهدم كل هذا، وتفتح أبواب الفتنة الطائفية لا الوحدة الوطنية.

ثانياً: لا شيء ينتج عن الحوار، ولا خطوة يتم إقرارها خارج إطار التوافق الوطني.

والتوافق الوطني هو العنوان العام للحوار كما حدده جلالة الملك منذ البداية.

أي خطوة وأي إصلاح لا بد أن يكون محصلة توافق كل القوى المشاركة في الحوار.

من دون هذا التوافق، لن يكون لأي نتيجة للحوار أصلاً قبولاً شعبياً عاماً، ولا قيمة عملية على أرض الواقع.

ثالثاً: ويرتبط مباشرة بما سبق ما طرحه (تجمع الفاتح) في بيانه من أنه ليس مقبولاً فرض أي شيء من خارج طاولة الحوار، لا سراً ولا علناً، ولا التدخل لتحديد اتجاه معين يمضي فيه الحوار وتتحدد على أساسه نتائجه ومخرجاته.

الأمر برمته يجب أن يترك للمتحاورين، وللتوافق الوطني في النهاية.

رابعاً: عدم القبول بأي دور خارجي من أي نوع كان، ولا بأي تدخل أجنبي على الإطلاق في مسيرة الحوار.

ولا يكفي هنا أن تقول "الوفاق" أو غيرها أنها لا تتلقى تعليمات من أي جهة أجنبية أو لا تنسق مع أي جهة أجنبية.

يجب ترجمة هذا ترجمة عملية محددة تتمثل في إعلان الجمعيات المشاركة في الحوار التزامها بعدم إجراء أي اتصالات مع أي سفارة أو أي جهة أجنبية إلا وفقاً للضوابط التي وضعتها وزارة العدل.

هذه مسألة لها أهمية حاسمة، ليس فقط لأن أي تدخل أجنبي مرفوض بداهة من حيث المبدأ وبغض النظر عن أي تفاصيل، ولكن أيضا لأن المخططات الأجنبية معروفة، والصيغ التي تطرحها بعض القوى الأجنبية مثل أمريكا لا تحمل إلا الخراب والفوضى والصراعات الطائفية للبحرين.

خامساً: لا بد أن يكون لقوى المجتمع الأخرى، غير الجمعيات السياسية، دور في الحوار.

هذه أيضاً قضية لها أهمية كبرى، ولا تحظى بالانتباه في الجدل الدائر حالياً.

أمران مهمان يجب ملاحظتهما هنا:

1 - إن الجمعيات السياسية، كل الجمعيات السياسية بلا استثناء، لا تمثل كل شعب البحرين وكل القطاعات والقوى الاجتماعية. هذه الجمعيات لا تمثل في أفضل الأحوال إلا قطاعات محدودة من الشعب.

وبالتالي، ليس مقبولاً أن يكون بيد هذه الجمعيات وحدها تقرير أمور تتعلق بمستقبل الوطن برمته، وتجاهل قوى المجتمع الأخرى.

2 - إن القضايا الخمس الكبرى المطروحة للحوار، حسب ما أعلن حتى الآن، هي قضايا مصيرية، على أساس أن ما سيتم التوافق بشأنها سيتحدد مستقبل البلاد والأوضاع فيها إلى حد بعيد.

وبالتالي، لا بد أن يكون لقوى المجتمع الأخرى موقف ورأي ودور تلعبه.

والمطلوب هنا ببساطة هو ان تتم دعوة ممثلين لقوى المجتمع هذه لتقديم رؤاها وتصوراتها للحوار وللقضايا المطروحة للحوار.

***

القضايا التي أثرناها في هذا الحديث هي مجرد اجتهاد متواضع للمبادئ والضوابط والضمانات التي تحكم الحوار. والهدف الرئيسي كما ذكرت في البداية، أنه ومع تأييد الحوار من حيث المبدأ، فأنه يجب ضمان أن يوحد الشعب ولا يفرقه، وأن يحمي ثوابت الدولة ولا يهددها، وأن يأتي في النهاية بالنتائج المنشودة التي تكون محلاً لرضا وقبول الرأي العام في البلاد بكل قواه.

ولا بد أن يجتهد كل من له رأي وتصور في هذا الشأن ويقدمه.

أما بالنسبة للقضايا الخمسة التي من المفروض أن يناقشها الحوار وما هو مقبول أو غير مقبول بخصوصها، فهذا أمر سيكون مطروحاً للنقاش الموسع في الفترة القادمة.

ومع كل هذا، وأياً كان المصير الذي سوف ينتهي إليه هذا الحوار، ما زلت عند رأيي الذي طرحته في المقال السابق، وطرحته قبل ذلك، لا بد من إعادة نظر جذرية في العملية السياسية برمتها وإعادة بنائها على أسس جديدة. وفي الوقت المناسب، سنطرح تصوراتنا بهذا الخصوص تفصيلاً.

27/1/2014