القذافي تجاوز المقبول عربياً وأفريقياً ودولياً
عبد الرحمن شلقم
اللواء أركان حرب، خليفة حفتر، يختزل قصة جيل ليبي. نقول قصة هرباً من تعبيرات أخرى. هو من الجيل الذي فتح عينيه على الزعماء العرب الذين زينوا أكتافهم بالنجوم وصدورهم بالنياشين. هو من تفتح وعيه في الخمسينات من القرن الماضي على هتاف الثورة، عندما نقول (الثورة) نعني الإنقلاب، كما كان يسميها أحد خبرائها، ميشيل عفلق. الثورات العربية في عقد الخمسينات، يطلق غبارها المفكرون، ويتحرك باسمها العسكريون ليلاً نحو الإذاعات لإعلان البيان رقم (1).
انضم خليفة حفتر للخلية العسكرية التي شكلها معمر القذافي من طلبة الكلية العسكرية الليبية في بنغازي سنة 1964 تحت اسم تنظيم الضباط الوحدويين الأحرار. وكان من بين الضباط البارزين في الحركة. صبيحة إسقاط النظام الملكي، قسم معمر القذافي زملاءه الضباط الى فئتين.
أعضاء مجلس قيادة الثورة وعددهم (11) وهو رئيس المجلس.
الضباط الأحرار، وهم أعضاء التنظيم الآخرين الذين لم ينالوا عضوية المجلس. لقد اختار معمر القذافي أعضاء المجلس، من الضباط الذين شكلوا اللجنة المركزية للحركة، ولكن العديد من الضباط ومن أعضاء الخلية المدنية للحركة، ذكروا أن القذافي شكل مجلس قيادة الثورة بعد نجاح الحركة، وبعد أن وصل إلى طرابلس قادماً من بنغازي، حيث اتخذ من مقر وكالة الأنباء الليبية مكتباً له بطرابلس. وأن اللجنة المركزية لم يكن لها وجود بالمعنى الذي استخدم في ما بعد.
لقد شكل القذافي مجلس قيادة الثورة على توازنات جهوية وحتى قبلية، واختار الأعضاء بمعايير منها الولاء والطاعة. استبعد الضباط الذين لهم توجهات أيديولوجية، والذين امتازوا بقوة الشخصية. وتفنن القذافي في السيطرة على أعضاء التنظيم وفي استعمالهم في مفاصل الدولة، وفي التكوينات العسكرية. قسم القذافي الضباط الأحرار إلى فئات ثلاث.
الأولى: الضباط الذين قاموا بدور كبير في استقطاب أعضاء للحركة في المرحلة التنظيمية السرية قبل الاستيلاء على السلطة.
الثانية: الضباط الذين توسم فيهم قدرات إدارية أو عسكرية، أو أمنية.
الثالثة: الفئة التي تطيع دون نقاش وأن تفعل ما تؤمر، أي الأدوات التي تحتاجها آلة الحكم.
أين كان (خليفة حفتر)؟.
كان في مقدمة الصف الأول من الضباط الأحرار، بل كان له من الصلاحيات والامتيازات التي تفوق تلك التي كانت لبعض الأعضاء. هو من بين الضباط الأحرار الذين يغادرون معسكراتهم، ولم يخلعوا البزة العسكرية، شارك في العديد من الدورات التأهيلية العسكرية في الداخل والخارج.
عُرِف بقوة شخصيته، واعتزازه بنفسه إلى حد الغرور.
تصادم مع الكثير من رفاقه وكان معمر القذافي دائماً هو الدافع له والمدافع عنه. كان حفتر من الفئة التي وضعها معمر منذ اليوم الأول في الدائرة القيادية العسكرية.
في مطلع الثمانينات من القرن الماضي كانت تشاد هي الحقل الذي ألقى فيه معمر القذافي بذور الفعل العسكري من أجل الحلم الفكري والسياسي، وهي مضمار الركض نحو الزعامة العابرة للحدود. تحركت الآلة العسكرية الليبية بكاملها، جنوداً وضباطاً، الدبابات والطيران وسخرت كل القدرات البشرية لتلك المعركة. تداول على قيادة القوات الليبية في تشاد كبار الضباط الليبيين، هم الضباط الأحرار الذين وضعهم معمر القذافي منذ اليوم في الفئة الثانية.
أصبحت تشاد في ظل حكم الرئيس حسين هبري قضية شخصية جداً بالإضافة إلى العاملين السابقين. لكن صارت اللعبة أكبر. تدخلت فرنسا بقوة، من منظور إستراتيجي وثقافي، وحتى اقتصادي فقد رأت حكومة الرئيس فرانسوا ميتران أن القذافي تجاوز المقبول، ورأى القذافي أن المواجهة مع فرنسا تدخله بقوة في مصنع الزعامة القومية العربية والأفريقية بل والدولية، أليست حرب 1956 بين مصر من جهة وفرنسا وبريطانيا و"إسرائيل" من جهة أخرى هي التي أطلقت صافرة زعامة جمال عبد الناصر؟.
التقى القذافي وميتران في قبرص لمعالجة موضوع التدخل الليبي في تشاد سلمياً. توصل الطرفان الى اتفاق، أخل القذافي في اليوم الثاني بالاتفاق، ثارت ثائرة فرنسا وأصبحت طرفاً مباشراً في تلك الحرب.
دفع القذافي بآخر ما لديه من الآليات والرجال دعماً للقوات التشادية التي تقاتل جيش الرئيس إدريس هبري، ووضع على رأس تلك القوات الضاربة العقيد خليفة حفتر. كانت معركة وادي الدوم (أم المآسي) في التاريخ الليبي الحديث. الموقع الذي تمركزت فيه القوات المسلحة الليبية - كان الحصن الذي لا تستطيع أقوى الجيوش اختراقه بتلك البساطة التي تمكنت بها القوات التشادية خفيفة التسليح أن تخترقه.
لاشك أن الأقمار الصناعية الفرنسية وكذلك القوات الجوية قد لعبت دوراً سحرياً في تلك الساعات القليلة الرهيبة التي قُتل فيها يوم 22 آذار/مارس سنة 1987 قرابة 1269 جندياً ليبياً، وأُسر 438 من بينهم العقيد الركن خليفة حفتر.
أنكر معمر القذافي وجود قوات ليبية في تشاد، وعندما سئُل القذافي عن العقيد خليفة حفتر أنكر معرفته به، وعلق ضاحكاً: ربما يكون أحد الرعاة الذين ضلوا طريقهم وهو يبحث عن إبله او أغنامه. تنقل - خليفة - بعد ذلك بين العراق وأمريكا.
انضم خليفة إلى (جبهة الإنقاذ الليبية) مع نخب سياسية وعسكرية ليبية، كانت تلك الجبهة أول حركة معارضة جادة لمعمر القذافي.
بعد تسوية ملفات الخلاف بين ليبيا والغرب وتحديداً منذ مطلع سنة 2000، بدأت بعض الشخصيات الليبية المعارضة في الخارج تتواصل مع النظام.
من بين هؤلاء السيد خليفة حفتر الذي تواصل مع أبو زيد دوردة الذي كان يشغل مندوب ليبيا بالأمم المتحدة في نيويورك. طبعاً لم يكن النظام يثق في حفتر، ولم هو أيضاً لم يثق في النظام، لم يعد خليفة إلى ليبيا إلا بعد ثورة 17 فبراير، إثر وصوله أعلن عن (خليفة الأول). الرجل المعتد بنفسه الذي يرى في نفسه المنقذ، وهو الأهم من اللواء عبد الفتاح يونس الذي عُين رئيساً لأركان جيش الثوار، ورفض التعامل مع اللواء عمر الحريري الذي كان يوماً زميلاً له في (حركة الضباط الأحرار) ثم أُتهم في محاولة انقلابية وقضى سنوات عديدة في السجن. مازال اللواء خليفة حفتر يحمل فوق كتفيه نجوم رجال الخمسينات، وعلى صدره نياشين الوهم القومي البطولي.
نقول للسيد خليفة حفتر: فكر، فكر، فكر.. لقد أعطيت سنوات من عمرك للوطن، حملتك الغربة بعداً عن الوطن، وحملت الحلم بوطن حر. كن صوت حكمة. لا وقت لخيالات القوة. هذا هو موسم الوطن. هل تذكر - عزيز الأحدب - الذي قام بانقلاب كوميدي في لبنان، تناول فنجان قهوة وهو يقرأ البيان الأول، ثم عاد إلى بيته هادئاً. فكر يا حفتر في التاريخ.
- كاتب وسياسي ليبي
"القدس العربي" لندن 23/2/2014