الإخوان بين السياسة والأيديولوجيا

عبد الرحمن شلقم - كاتب وسياسي ليبي

بعد الحرب العالمية الثانية، استفاقت اوروبا على دمار شامل مرعب. الأيتام، الأرامل، البطالة، الجوع، والأخطر، كان عصاب الحرب، وهو حالة من الرعب العصبي ينشرها أولئك العائدون من الجبهات الذين قضوا ردحاً من الوقت بين الجثث في وحول معجونة بالدم.

في أوروبا الشرقية التي صارت تحت سطوة الشيوعية المقادة من الإتحاد السوفييتي، فرضت الحكومات النظام بقوة الأجهزة الأمنية وخلايا الأحزاب الشيوعية التي فرضت قبضتها الحديدية دون هوادة. قدمت الطعام المتاح للمحتاجين وباشرت في إقامة مشاريع صناعية وزراعية استوعبت العاطلين مقابل ما يسد الرمق، احتشدت أرتال العمال في المصانع والمزارع في ما يشبه السخرة، بل كانت من الناحية الإنسانية سخرة بكل المعاني. في أوروبا الغربية التي صارت تحت المظلة الرأسمالية الأمريكية تدفقت المساعدات الهائلة في ما عرف بـ(مشروع مارشال). كانت الديمقراطية هي الخيار الذي لا خلاف عليه.

أيقنت أمريكا ومعها قادة أوروبا الغربية الجدد أن الضمان الأساسي لنجاح الليبرالية والديمقراطية هو تلبية الاحتياجات العاجلة للناس، وهو السد الذي يمنع اتساع شعبية الأحزاب الشيوعية في غرب أوروبا. في إيطاليا كان الحزب الشيوعي هو الأقوى في كل أوروبا الغربية، له قاعدة عمالية منظمة وفاعلة، قاد المقاومة القوية والشاملة ضد الفاشية، في حين كانت الأحزاب الليبرالية ضعيفة بل هشة. الحزب الديمقراطي المسيحي الإيطالي له تأثير واسع على قطاعات واسعة في المجتمع الإيطالي بحكم وجود الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الفرعية التي تهيمن ليس على الحياة الدينية فحسب بل على فعاليات اقتصادية على امتداد البلاد.

في عام 1948 التقى زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي - تولياتي - مع زعيم الحزب الديقراطي المسيحي - دي قاسبري -. تحدث الزعيمان مطولا عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي المنهار في البلاد وعن الخطط العاجلة لمواجهته. اقترح الزعيم الديمقراطي المسيحي أن تكون للشيوعيين اليد الطولى في الحكومة المراد تشكيلها لإدارة الأزمة، لأن الشيوعيين هم من قاد المقاومة ضد الفاشية والاحتلال النازي لإيطاليا في أواخر سنوات الحرب العالمية الثانية. اعترض تولياتي. أصرَّ ان يقود الحزب الديقراطي المسيحي تلك الحكومة. لماذا؟. لأن البلاد تواجه استحقاقات اجتماعية ذات طابع إنساني.

آلاف الأرامل، عشرات الآلاف من اليتامى والجرحى، الدمار يخيم على كل البلاد. هناك حاجة ملحة للتضامن الوطني بعيداً عن الإيديولوجيات. كانت المرحلة تقتضي العمل بالسياسة وليس بالأيديولوجيا. أوروبا هاربة من الأيديولوجيا التي قادتها إلى الدمار والإبادة، لقد رفع هتلر الشعارات الدينية، عقف الصليب، واستدعى الأساطير التاريخية، وأضاف فلسفات التفوق الآري العنصري، موسوليني صبَّ أفكاره الفاشية في وعاء التاريخ الروماني. أعاد عبارة (al mar nostrum) (بحرنا) على البحر الأبيض المتوسط التي استعملها الرومان، ليبرر استعمار إيطاليا لليبيا واليونان وغيرهما من البلدان المتوسطية. الأيديولوجيا تجيش البشر وتلغي عقولهم، تعبئ مشاعرهم في اندفاع نحو الأهداف المتخيلة التي تقفز فوق الواقع وتركض نحو عظمة نظرية لا وجود لها. الأيديولوجيا تقتل السياسة التي هي أداة العقل في مواجهة الحقائق أي المشاكل. انتشرت الأحزاب الديمقراطية المسيحية في بعض دول أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، حصدت تأييد الناخبين، لأنها تمحورت حول (القيم الدينية) وليس الأيديولوجيا الدينية.

الإخوان المسلمون، ظهرت حركتهم في 1928م بحثاً عن هوية إسلامية لها جذور في التاريخ والعقيدة بعد انهيار دولة الخلافة العثمانية والتمدد الاستعماري المسيحي الأوروبي في البلاد الإسلامية. الأيديولوجيا كانت الوعاء الذي يصب فيه الهدف والعكس صحيح. اليوم تواجه الأمم الإسلامية استحقاقاً آخر. التخلف الاقتصادي، الأمية، البطالة، الفقر. ترتب على كل ذلك ظواهر تناقض جوهر الإسلام وغاياته الإنسانية والروحية. السياسة الإسلامية اليوم لا بد أن تستل قيم الدين، تحولها إلى برامج عاملة. يتحدث الإسلاميون عن تطبيق الشريعة، وهم يحصرونها في العقوبات البدنية من جلدٍ ورجم، وقطع اليد.. الخ. يحولون المرأة الى الشيطان الأسطوري، لا نستغرب إذا طالب بعضهم بالعودة إلى عادة وأد البنات في الجاهلية.

السياسة باختصار هي (التدبر)، قال الله في محكم الكتاب: ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفاُلها))، التدبر هو قدح الفكر المستند إلى قيم الدين التي تنير الوسائل من أجل مواجهة استحقاقات المستجد من مشاكل الحياة. اليوم نحتاج أولاً الى قيم الإسلام، القيم الاجتماعية. التواصي بالحق، رعاية الأيتام، البر بالوالدين، التعاون على البر والتقوى. من هنا تتحدد الأهداف وتوضع لها الوسائل، مع خطاب إنساني متسامح يعطي للجهد الإنساني بعداً روحياً حافزاً ودافعاً يواجه الفساد والانحراف. معادلة – البشير والنذير -، هي كيمياء التوازن الإنساني الذي يغزل نسيج التكوين الاجتماعي السوي، من خلال تحويل القيم الى سياسات تتعاطى مع إكراهات الواقع. الدين يفسدُ إذا صُبَّ في الأيديولوجيا المغلقة، يتحول إلى غلاف بين البشر وإشارات الحياة. أمامنا اليوم في بعض الدول الإسلامية، تجارب سياسية، أقصد تحديداً تركيا وماليزيا.

يقول البعض أن هذين البلدين حققا قفزة اقتصادية سريعة بفضل قيادة أحزاب إسلامية، وهذه مغالطة فكرية بقدر ما هي مغالطة سياسية. ففي تركيا لا يزال الدستور ينص على أن الدولة علمانية، وكل شيء يحرمه الإسلام مباح فيها، لا تطبيق لأي حد من الحدود العقابية الإسلامية، فأين حكم الإخوان وإسلامهم في تركيا؟

كل ما حدث في تركيا هو مقاومة الفساد الذي كان ينهش كل مفاصل الحياة الاقتصادية، وفسح الطريق أمام الطبقة الوسطى للانخراط في النشاط الاقتصادي، والانفتاح على الأسواق الدولية من خلال اتفاقيات انتقائية، وتسهيل حركة قدوم رجال الأعمال والسياح من كل أنحاء العالم، وتوسيع العلاقات مع دول آسيا الوسطى السوفييتية سابقاً والتي ترتبط بتركيا بعلاقات ثقافية وتاريخية مع تركيا.

أما عن ماليزيا، فنسب ما حدث فيها للتوجهات الإسلامية فهو الخيال بلحمه وشحمه وعظمه. كيف؟

لقد زار ليبيا مهاتير محمد الذي كان عندئذ رئيساً لوزراء ماليزيا، وكنتُ وزيراً للخارجية الليبية، جلسنا مطولاً على العشاء معه وبحضور المهندس مبارك الشامخ الذي كان رئيساً لوزراء ليبيا. كان محور الحديث عن القفزة الاقتصادية التي حققتها بلاده في سنوات قياسية.

تحدث مهاتير بلغة دقيقة ومحددة عن (سياسات) أقول عن سياسات ولم يتحدث عن (أيديولوجيا)، قال: لقد وضعنا برامج للتحديث والتطوير الشامل، قامت هذه البرامج على المرتكزات الآتية: الوئام الاجتماعي بين المكونات الإثنية والدينية للمجتمع الماليزي، حيث أن ماليزيا تتكون من أعراق ثلاثة هي، المالي المسلم، والهندي، والصيني، والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات.

الخصخصة: قدم رئيس الوزراء مهاتير محمد، مثالاً عن ذلك، حيث كانت شركة الاتصالات تخسر سنوياً ما لا يقل عن ثلاثين في المئة من رأسمالها، وبعد الخصخصة ارتفعت أرباحها، بنفس النسبة. المرتكز الثالث، تفعيل القانون وفرض الشفافية ومقاومة الفساد. المرتكز الرابع، التعليم التقني والعلمي حتى أصبحت ماليزيا دولة مصدرة للخبرات والعقول، وقد تولى مواطن ماليزي رئاسة البنك المركزي في ناميبا. إذاً أين الإسلام من ذلك البرنامج؟ سألت الرئيس. قال استخدمنا قيم التسامح الإسلامي في خطابنا حول الوحدة الوطنية.

الخلاصة، أن السياسة تحتاج الى خطط وبرامج تعالج ما يواجهه المجتمع من استحقاقات ضاغطة، تستند إلى (قيم) هذا المجتمع أو ذاك وليس إلى عنتريات أيديولوجية ملتهبة، تزرع الشحناء وتركض وراء الأوهام.

سنة 2006 نشر الأستاذ (لورنس هاريسون) كتاباً علمياً شدَّ انتباه دارسي التطور الاجتماعي والاقتصادي، عنوان الكتاب (the central liberal truth)، تحدث فيه عن علاقة الثقافة والدين بالتطور الاقتصادي والاجتماعي. سرد الارقام والنسب والاختلافات بين الدول المسيحية، تلك التي تتبع المذهب البروتستانتي والأخرى ذات المذهب الكاثوليكي.

بالأرقام كانت الدول البروتستانتية الأكثر تقدماً في حين تأتي بعد الإثنين الدول البوذية والإسلامية. استند المؤلف على إحصائيات وأرقام الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، ومراكز البحوث الاقتصادية والاجتماعية، يقول المؤلف في الصفحة 94 "في المكتب القومي للبحوث أجريت دراسة حول الحكم الرشيد في العالم ذكر في الفصل الثاني أن النرويج هي رقم 3 ونيوزلندا رقم 1، سويسرا رقم 2، أيسلندا رقم 6، وفنلندا رقم 8"، ويضيف المؤلف، "كل هذه الدول هي بروتستانتية".

وفي الصفحة رقم 95 يضع المؤلف عنواناً فرعياً يقول فيه: أن الكونفوشيوسية أكثر تقدماً نحو التحديث من الدول الإسلامية والبوذية والهندوسية. يستمر الباحث في استعراض الدول ونسب التقدم والتطور استناداً إلى أرقام الدخل والتعليم الخ. لقد اختار المؤلف لبحثه عنواناً فرعياً هو: كيف تستطيع السياسة تغيير ثقافة وأن تحميها من نفسها؟ أدلجة الدين تقضي على القيم الإنسانية فيه، تشد إلى الوراء.

لن يستطيع الأخوان المسلمون أن يخوضوا معترك الحياة اليوم، ما لم يعرفوا إشارات المرور، الفرق بين اللون الأحمر والأخضر في مسارات الدنيا، بين الأيديولوجيا الدينية وبين السياسة.

16/2/2014