الزعتري ثاني أكبر مخيم في العالم
في أكبر ثاني مخيم في العالم تصنع صورة سوريا الجديدة تكشف داخله (شانزيليزيه) صغيرة لمجتمع جديد بهوية ليست جديدة بقدر ما هي مستعادة.
صبحي حليمة
عمان - ثاني أكبر مخيم في العالم وموطن البؤس وسجن الشقاء وضحية الحرب.. عشرات التوصيفات والعناوين حول مكان واحد، صائبة في معظمها، وفي حالات أخرى تعتيم وتعمية.
الزعتري، المخيم النابت على حافة الشريط الشائك، وفي مهب ريح الموت، هو كل ذلك معاً، لكنه أيضاً من زاوية أخرى، مكان للعيش، بكل ما في المفردة من احتمالات الفرح، وحين تضيّق الزاوية أكثر، حين تصل إلى اللقطة القريبة، (الكلوز)، ستكتشف أنه تجمع إنساني يجترح الحياة من غبار موتها، يبتدئ العيش، من حيث انتهى، يصنع شكله الخاص، ومضمونه المختلف، مفرداته، مشكلاته، وقوانينه، فيصبح التجمع مجتمعا، وتصبح حياته الأخرى، ثقافة ناشئة، تتفق أو تختلف مع سلفها، تقترب أو تبتعد عن حال الحرب التي ساهمت في خلقها، لكن المؤكد أن الزعتري مجتمع جديد، وثقافة جديدة.
تغيير
مفهوم اللجوء
مخطئ من يظن أن الأردن كان خياراً، ومخطئ من يظن أن أحد الدرعاويين (والسوريين تاليا) فكر لمرة واحدة، أنه سينام ذات ليلة فوق فراش من وحل ووسادة من طين، لكنه ككل البشريين، هرب إلى النافذة حين شب الحريق، وكان الشريط الشائك نافذته الوحيدة، لم يسعَ السوري إلى خيمةِ سواه، لم يحلم برخاء مفوضية الأمم المتحدة، ولا برفاه أن يدخل بيوت الآخرين بحذاء الحنين ضيفاً ثقيلاً، لكن "الحرب" لم تترك له سوى الشريط الشائك، وقلبه، وبقلبه قلَبَ مفهوم اللجوء.
صناعة
الحياة، ابتكار الفرح
لم يخضع السوري للخيمة، ولم يسترخ داخل حالة الضحية، فتجلى تمرده بداية في احتجاجات وصدامات، بين مجموعة وأخرى، أو بين أطفال ودرك، لكن سريعاً أفرز التجمع البشري "وجهاءه"، وسريعاً ضبط هؤلاء فوضى أبناءه، وسريعاً تحول المخيم إلى مجتمع قائم.
أيام فقط، وأصبح للخيمة إنارتها، عبر أشرطة استجلبت الكهرباء قسراً، من أعمدتها القريبة، أسابيع، وبات للمخيم سوقه، وتطور السوق، صار اسمه (شانزيليزيه)، ربما سخرية من واقع ثقيل، وربما هي إرادة الحياة، ونشأت في السوق محلات، "مأكولات ومطاعم وسمانة"، ثم ظهرت خدمة الحوالات الدولية، والاتصالات، ومحلات لبيع الملابس الجاهزة، وثم صاغة، وباعة ذهب، ومحلات لتأجير بدلات العرائس..!! نعم بدلات العرائس، فالأعرس لا تتوقف في هذا المجتمع الجديد، وإن دون حفلات صاخبة ودبكات، لكن بفرح خاص، يمكن تسميته بـ"الفرح الزعتري".
استعادة
الهوية
أول ما يلفت النظر في مخيم الزعتري، اللباس التقليدي. للوهلة الأولى تشتبه أن هذا التجمع البشري تجمعاً ريفياً، بسبب اعتماد اللباس التقليدي في الغالبية العظمى من سكانه، ويمكنك ملاحظة حرص الوجهاء تحديداً على هذا اللباس، تتحرى الأمر فتجد أن أولئك الرجال، (في منتصف العمر وأواخره)، كانوا ممن يتباهى بالبدلات الأنيقة سابقاً، وبعضهم كان موظفاً ذا مكانة، وبعضهم كان يسكن العاصمة، وبعضهم شاعراً أو عازفاً. وكانوا جميعاً يتهربون من اللباس التقليدي الذي كان يعتبر دلالة تخلف، أو "ريفية" في أحسن الأحوال.
حطة
وعقال و(كلابية)
ليست المسألة مصادفة عابرة، ولا هيمنة ريفية على مجتمع ناشئ معظم أفراده من ريف درعا، بل هي استعادة لملامح، وروح. ففي السنوات الخمسين الفائتة، أسست "سلطة البعث" والأسد، لثقافة مختلفة، دخيلة، وبلا ملامح، كان أول أهدافها، الإطاحة بالعادات والتقاليد، تحت يافطة الاشتراكية والعلمانية ومحاربة الرجعية ومواءمة العصر، فتراجع صوت الغناء المحلي، واختبأ "الشرش" و"الكلابية" – (الجلابية)، وتخلت الأعراس عن عاداتها، وانحلت حلقات الشعر الشعبي والزجل، وتمدن الريف، وتريفت المدينة، وتغيرت الديموغرافيا، ونبتت "أحياء" السكن العشوائي كالفطر على حواف المدن. وكان نتيجة كل ذلك، أن بهتت الخصوصية السورية، لصالح حالة هجينة بلا ملامح.
في الزعتري، بدأ السوري دون وعي مباشر أو تعمد قصدي، استعادة ملامحه، تراثه، لهجة منطقته التي طالما حاول تطويعها لصالح لهجة "وسطية" تشبه لهجة المسلسلات، ولباسه التقليدي، الريفي، الذي بات العنوان الأول، لصحوة. لعودة وعي، ليست متأخرة، وليست مبكرة، إنه ببساطة، زمن الثورة.
ورشة
عمل دائمة
في المخيم مساجد، ومدارس، وفي يوميات المخيم، ورشات عمل، ومبادرات، مشاركات في أفلام، ومساهمات في عروض فنية، وفي المخيم مكاتب لمؤسسات وجمعيات وهيئات، وكل ذلك ما كان يمكن أن يكون، لولا إرادة أبناء المخيم ذاتهم، وقابليتهم للتعامل مع الإيجابي، مثلما عانوا مع فوضى التجمع الأول، وكثيرون يبالغون في الإشارة إلى الفوضى الأولى، دون انتباه لأن التخلص منها، لم يكن بمعجزة إلهية.
المرأة.. من العبء إلى السند
منذ أول انتفاضة السوري، سعت منابر وفضائيات، لشيطنة الشعب السوري في أقدس مقدساته الاجتماعية، "الشرف"، لكن لا ملامح للكذبة وتطاولاتها، وارتداداتها هنا، في الزعتري مجتمع سوري، يعلي الشرف على ما سواه، وليس مسموحاً حتى أن تسأل حول تلك الفرية، ليس بفعل موروث اجتماعي اخلاقي أصيل، ومتجدد، بل وبفعل حالة اللجوء والمخيم بالتحديد.
لعل أول من اجتاز الشريط الشائك كان جريحاً، أغلقت أمام وجعه الأبواب، لكن الثاني كان بالتأكيد أم تجر أطفالاً كزغب القطا، يسألون عن أب ذبيح، وبيت مدمّر، وأخ غائب، وتوالت على برودة السلك الذي أوهنت دموع العابرات شوكه، نساء أجبرتهن الحرب على إلباس قلوبهن غير لبوسها، وتحولت المرأة من ضلع ضعيف إلى عمود فقري للعائلة، فكان عليها أن تقف طويلاً أمام أبواب المفوضية المسماة سامية، وتشد أوتار خيمتها في وجه الريح، وتبعد ماء الأمطار عن أقدام صغارها، وتسعى خلف خبز، ومدفأة، وعلبة حليب، ولتكن شريكاً حقيقياً للرجل، بل ولتكن امرأة ورجلاً في آن معاً، في العديد من الحالات، وبنظرة سريعة، يبدو لنا أن المرأة هنا تعيش حقوقها ومسؤولياتها، دون إقصاء أو تهميش، وتشغل مكانة كريمة محترمة، في مجتمع لم يعد ذكوريا فقط، ودون ادعاءات أو إعلانات، وبعيداً عن التنظير وأبحاث (الجندر).
صورة
الغد.. في لقطة قريبة
وبين امرأة جديدة، ورجل جديد، تتشكل حياة اجتماعية جديدة، وثقافة جديدة، تؤسس لمجتمع جديد، بهوية ليست جديدة بقدر ما هي مستعادة، مجتمع يصنع صورته الخاصة، وفي ثناياها يصنع صورة سوريا الجديدة.. صورة السوري القادم.
"العرب" لندن 24/1/2014