الوحدة المصرية - السورية كانت نقطة أمل لدى الجماهير العربية لوحدة عربية شاملة ولكن الانفصال بدد الآمال..

عبد الناصر يمنع سفك الدم العربي بيد عربية فوق اللاذقية

كتب صبحي منذر ياغي

في 22 شباط/فبراير من العام 1958، أعلنت الوحدة السورية - المصرية التي أحدثت جدلاً كبيراً في الأوساط السياسية العربية، إلا أن البعض اعتبر هذه الوحدة مجرد خطوة ارتجالية عاطفية لم ترتكز على أسس منطقية وواقعية، بل في إطار المصالح الأمنية والسياسية التي كانت سائدة في تلك الظروف وأن انهيار هذه الوحدة بعد ثلاث سنوات من إعلانها يشكل دليلاً على استحالة تحقيق الوحدة العربية بالطرق المرتجلة، وعلى استحالة تجاهل خصوصيات الأوطان.

اعتبر البعض أن الوحدة المصرية - السورية التي أعلنت يوم 22 شباط/فبراير من العام 1958، كانت نتيجة المطالبة الدائمة لمجموعة من الضباط السوريين، في وقت كان فيه قادة حزب البعث العربي الاشتراكي قد قاموا بحملة من أجل الاتحاد مع مصر.

ورأى النائب السوري السابق الدكتور جورج جبور: "أنه منذ منتصف عام 1954، ومنذ مطلع عام 1955 خصوصاً، أبدت الجماهير في سوريا اهتماماً خاصاً بثورة مصر: اتفاقية القناة، مقاومة الأحلاف، بلورة الفكرة العربية لدى قادة ثورة مصر، الضغط الصهيوني على مصر متمثلاً في الحملة على غزة مطلع عام 1955، مؤتمر (باندونغ)، صفقة الأسلحة، توضح الاتجاه الاجتماعي للثورة ومحاربتها الجدية للإقطاع، كل ذلك أكسب الثورة وقائدها احتراماً عظيماً في الأوساط التقدمية والديموقراطية في القطر العربي السوري، فإذا أضفنا إلى كل ذلك الوزن الذي تمثله مصر في الوطن العربي: بشرياً وحضارياً وجغرافياً خصوصاً، اتضح لدينا أن استقطاب الزعامة الناصرية للجماهير العربية في النصف الثاني من الخمسينات كان أمراً محتماً".

تيار الوحدة

مع انتخاب شكري القوتلي في العام 1955، حسم الموقف لمصلحة التيار المنادي بالتعاون والتحالف مع مصر، واتفقت مصر وسوريا على إنشاء قيادة عسكرية موحدة يكون مركزها في دمشق، وكانت العوامل الخارجية قد لعبت دورها الأول في تعزيز هذا التقارب، حيث بدأ الاتحاد السوفياتي في بداية عام 1956 بحملة دبلوماسية واسعة لاكتساب دول "الشرق الأوسط"، وقبلت سوريا ومصر في شهر شباط من العام نفسه صفقات السلاح السوفياتي في الوقت الذي كان فيه "حلف بغداد" يهدد الأراضي السورية بدعم من بريطانيا.

ورأى الدكتور احمد سرحال أنه عند اندلاع معركة سيناء في تشرين الأول/أكتوبر من العام 1956 ووقوع العدوان الثلاثي على مصر "أعلنت الحكومة السورية حالة الطوارئ في أراضيها.. ولم يعد بوسع الحكومة السورية التراجع عن سياستها الجديدة إذ شعرت بقدر من العزلة أمام السياسة العراقية و"الاسرائيلية". فعقدت في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1957 معاهدة للتعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفياتي. واجتمع في 18 تشرين الأول/أكتوبر 1957 مجلس النواب السوري ومجلس النواب المصري في جلسة مشتركة وأصدرا بالإجماع بياناً يتضمن دعوة إلى حكومتي البلدين للاجتماع وتقرير الاتحاد بين الدولتين. وفي هذا الاتجاه اجتمع رئيسا البلدين جمال عبد الناصر وشكري القوتلي وأركان حكومتيهما وأصدروا بياناً في 22 شباط/فبراير 1958 أعلنوا فيه توحيد القطرين في دولة واحدة في الجمهورية العربية المتحدة التي قرر أن يكون نظامها رئاسياً ديموقراطياً. وبالفعل جرى استفتاء شعبي على الوحدة وتم انتخاب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة. ووضع في 5 آذار/مارس 1958 دستور جديد مؤقت للجمهورية العربية المتحدة.

الوحدة حلم العرب

المحامي غالب ياغي (الذي تولى في تلك الحقبة أمانة سر القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان) اعتبر في حديث لـ"الأفكار" "أن الوحدة العربية كانت وما زالت حلماً بالنسبة إلى العرب، وجاءت الوحدة المصرية السورية تلبية لرغبات الشعبين المصري والسوري، في إطار الجو الدولي الضاغط، والأحداث التي شهدها الوطن العربي من تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر، والحشود التركية على الحدود السورية وصولاً إلى قيام "حلف بغداد" بالمؤامرات والدسائس. ومنذ أيام إنشاء حكومة صبري العسلي في سوريا أصر ميشال عفلق أن يتضمن البيان الوزاري للحكومة الدعوة إلى الوحدة السورية المصرية، وقد لاقت هذه الدعوة تأييد مجلس الشعب السوري. وقد قام عدد من قادة الألوية في الجيش السوري بمفاوضة الحكومة المصرية حول الوحدة، وكان من بين هؤلاء عبد الغني قنوت، وأمين الحافظ، وصلاح جديد، ومصطفى حمدون، وأعلنت الوحدة، ومنح الرئيس السوري شكري القوتلي لقب (المواطن العربي الأول)".

وفي لقاء مع النائب السابق اللواء سامي الخطيب الذي عايش تلك الفترة من موقعه كضابط أمني في الشعبة الثانية (الاستخبارات اللبنانية)، اعتبر أن "الوحدة المصرية السورية كانت نتيجة لتطلعات الشعوب العربية وأمانيها في التوحد، وكانت جزءاً من أحلامنا وتطلعاتنا".

وفي رأي غالب ياغي أن الوحدة بين مصر وسوريا "أعطت الأمل للمواطن العربي بإمكان السعي إلى الوحدة الشاملة، وكانت في تلك الفترة الرد الحاسم على المؤامرات التي كانت تستهدف سوريا ومصر ولبنان وبقية الدول العربية...".

ممارسات ديكتاتورية

في المقابل، فإن المعارضين لمشروع الوحدة والمتابعين لهذه الفترة التاريخية، أكدوا أنه منذ قيام الجمهورية العربية المتحدة، بدأت الممارسات "الديكتاتورية" من جانب أجهزة الرئيس عبد الناصر. وكان قد وضع شرطين لقيام هذه الوحدة، أولهما أن يمتنع الضباط عن ممارسة العمل السياسي، وحلّ الأحزاب في سوريا ومن بينها حزب البعث، وهذا ما أثار نقمة عدد كبير من البعثيين الذين لم يتوقعوا استبعادهم من الوحدة وهم من صانعيها.

السياسة المتبعة تجاه سوريا أفقدتها سيطرتها على شؤونها الداخلية والخارجية، وانعدمت الحياة السياسية فيها، لتنحصر في يدي المسؤولين المصريين، ولم تعد دمشق سوى مركز محافظة. وأنشأ عبد الناصر حكومة مركزية ضمت: أكرم الحوراني، وصلاح الدين البيطار، وكانت الشؤون المصرية والسورية، من اختصاص مجلسين تنفيذيين محليين. وفي تشرين الثاني/نوفمبر عام 1959 أرسل الرئيس جمال عبد الناصر أبرز مساعديه المشير عبد الحكيم عامر ليتولى حكم سوريا التي أطلق عليها اسم الإقليم الشمالي، أما مصر فكانت الإقليم الجنوبي.

ولأن الوحدة لم تأت وفق ما تمناه السوريون، فقد بدأ عدد منهم التعبير عن رفضه ومشاعره وخصوصاً بسبب التدخلات المصرية في الشاردة والواردة، وبسبب تهميش دور الزعماء والقادة السوريين، حتى أولئك الذين كانوا في المناصب الحكومية، ومنهم أكرم الحوراني الذي أعرب عن خيبة أمله "... وغادر الحوراني القاهرة بعدما نفض يديه من الوحدة عائداً إلى مدينة حماه وسط خيبة أمل كاملة من تجربة الوحدة مع مصر...".

وأشار المحامي غالب ياغي خلال حديث مع "الأفكار" إلى أن أكرم الحوراني أبلغه في بيروت أن الاختلاف بينه وبين عبد الناصر كان سببه الرئيسي، موضوع تحويل "الاسرائيليين" لنهر الأردن، وهذا ما دفعه إلى تقديم استقالته من منصب نيابة الرئاسة ومن وزارة العدل في الحكومة المركزية، وأصدر الحوراني بياناً في 13 حزيران/يونيو 1963 بعد انفصال سوريا عن مصر تحدث فيه عما جرى في جلسة الوزارة المركزية في القاهرة بتاريخ 29 تشرين الثاني 1959.

تعذيب المعارضين

ويذكر الذين عايشوا تلك الفترة كيف بدأت عملية ضرب المعارضين من الشيوعيين بالدرجة الأولى لتطول بعدها البعثيين. ولعب المقدم عبد الحميد السراج دور الجلاد، فزجّ عدداً من المعارضين في غياهب السجون وفي الأقبية السود، وتعرض الكثير من هؤلاء لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي وبأساليب وحشية.

ورأى الصحافي في لندن غسان زكريا (عديل عبد الحميد السراج): "... أن السراج حوّل سوريا في زمانه إلى سجن كبير، اختفت فيه كل مظاهر الديموقراطية وشكلياتها، وضرب فيه وعذب وزراء ونواباً وأطباء ومحامين وصحافيين ورجال أعمال ومهندسين ونساء ورجال دين، وهو ما لم يجرؤ الاستعمار الفرنسي على مدى ربع قرن على فعله وهو يحتل الشام ولبنان بمئة ألف جندي...".

السلطان الأحمر

فمن هو عبد الحميد السراج، الذي أطلق عليه الأديب اللبناني سعيد تقي الدين لقب "السلطان الأحمر"؟

يشير غسان زكريا الذي وضع كتاباً عن عديله عبد الحميد السراج بعنوان "السلطان الأحمر"، إلى أن السراج المولود في مدينة حماه السورية، بدأ حياته حارساً على مدخل بحسيتا (سوق مدينة حلب العمومية)، وكان في ذلك الوقت يصرف الوقت في كوخ الحراسة على الدرس والتحضير لامتحانات البكالوريا ليستطيع الانتساب إلى الكلية العسكرية التي دخلها في العام 1947. وبعد تخرجه حاول السراج الانتساب إلى (جيش الإنقاذ) الذي تشكل إثر نكبة فلسطين، إلا أن قادة هذا الجيش من الحمويين ومنهم أديب الشيشكلي، وأكرم الحوراني رفضوا طلبه بحجة عدم امتلاكه الخبرة العسكرية الكافية، وشكّل هذا الأمر صدمة تركت أثراً بليغاً في حياة السراج.

مكتب أمني خاص للشؤون اللبنانية

عندما تولى عبد الحميد السراج وزارة الداخلية والمسؤولية الأمنية في عهد الوحدة السورية - المصرية، عمد إلى إنشاء مكتب أمني خاص للشؤون اللبنانية، مركزه عند منطقة الحواكير في دمشق، وتولى مسؤولية هذا المكتب الضابط السوري برهان ادهم (أبو ابرهيم). ويذكر غسان زكريا في كتابه المذكور آنفاً "أن المكتب الخاص كلف خزينة الدولة مئات الملايين، أنفقها برهان أدهم بلا حسيب ولا رقيب، اشترى بها "عملاء" له في لبنان منهم النواب والوزراء وشيوخ العشائر ورعاع القوم... وكان سميح عسيران نائب صيدا الراحل على صلة ببرهان أدهم وعبد الحميد السراج، وكمال جنبلاط كان صديقاً للسراج مثله، ومثلهما كان سليمان فرنجية، رينه معوض، صائب سلام، رشيد كرامي، عبد الله اليافي، صبري حمادة، عدنان الحكيم، شبلي العريان وغيرهم كثر كانوا يحجون إلى دمشق في الشتاء وبلودان في الصيف سعياً لكسب رضا "السلطان" وسؤال خاطره... ثم يمرون على السفير المصري في دمشق قبل أن يعودوا إلى عبد الحميد غالب السفير المصري في بيروت، ليباحثوهم في العروبة والوطنية...".

لعل النقطة السوداء الأبرز في تاريخ عبد الحميد السراج، كانت اعتقاله أحد مؤسسي حزب الشعب اللبناني والقيادي البارز في الحزب الشيوعي في لبنان وسوريا فرج الله الحلو، وتصفيته بعد تعذيبه، ثم تذويب جثته بالأسيد لإخفاء معالم الجريمة.

يد من حديد

كان السراج يقوم ببث أعوانه وجواسيسه لمراقبة اجتماعات الضباط السوريين المشكوك في ولائهم للوحدة، ومراقبة الأنشطة السياسية والاجتماعية واعتقال المشتبه بهم، والضرب بيد من حديد وبقسوة، وذكر غسان زكريا "... وشارك السراج في تأجيح الصراع خلال أحداث 1958 في لبنان التي قامت في نهاية حكم الرئيس كميل شمعون ودعم الجبهة الوطنية بالمال والسلاح"، حتى أن زكريا يعتبر أن السراج كان المسؤول الأول عن اغتيال الصحافي نسيب المتني في بيروت في أيار/مايو 1958.

اتهامات مبالغ فيها

وفي رأي النائب سامي الخطيب: "...إن الاتهامات الموجهة إلى السراج مبالغ فيها، وأن السراج كان ضابطاً أمنياً ناجحاً، وأدى دوره بإخلاص، ولكن المناخات السياسية والأمنية المضطربة، التي كانت سائدة في تلك الفترة، كانت تتطلب الضرب بيد من حديد. السراج رجل وطني وليس هناك من شكوك في وطنيته وعروبته...". أما السيدة هدى جمال عبد الناصر وفي سؤال وجهناه إليها عن تصرفات السراج ومدى مسؤوليته عن انهيار الوحدة، فإنها اعترفت بدوره في حدوث الانفصال من جراء ممارساته وتصرفاته، وأكدت أنه تمت دعوة السراج إلى الندوة التي عقدتها "الأهرام" منذ سنوات في مصر، عن الوحدة المصرية - السورية للمساهمة والمشاركة، إلا أن السراج لم يحضر ولم يشارك وتمنع حتى عن الإجابة أو الرد على الكثير من الاستفسارات والأسئلة، واتهموه صراحة في الندوة بأنه من المسؤولين عن الانفصال، (وهو ما زال مقيماً في مصر). وأشارت السيدة هدى عبد الناصر إلى أن لديها "رسائل متبادلة بين الرئيس عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر تشير إلى الصراع الذي كان دائراً بين عامر والسراج، حول أمور كثيرة".

الانفصال وانهيار الوحدة

كان للأجواء السياسية المشحونة دورها الأول في حصول الانفصال، إضافة إلى التدخلات العربية والأجنبية. ولا ينفي اللواء سامي الخطيب "أن تكون الأسباب الداخلية قد لعبت دورها في حصول الانفصال، إضافة إلى الدور الذي لعبته السفارات الغربية التي كانت منذ الأساس ضد هذه الوحدة...".

ففي 28 أيلول/سبتمبر 1961، قامت مجموعة من الضباط السوريين بقيادة المقدم عبد الكريم النحلاوي (مدير مكتب عبد الحكيم عامر)، وبدعم أردني - سعودي، وبمؤازرة من رجال الأعمال السوريين الساخطين بسبب قرارات التأميم، بانقلاب عسكري في أجواء متأزمة من النواحي كافة. وفوجىء الرئيس عبد الناصر بأنباء التمرد السوري فأمر بإرسال قوة من ألفي مظلي مصري إلى سوريا لسحق هذا التمرد. إلا أن الرئيس جمال عبد الناصر عاد ونقض أوامره بعدما شعر بإمكان وقوع معارك وإراقة الدماء بين الجيش المصري والمتمردين ففضل سحب قواته، حتى لا يراق دم عربي بيد عربية.

وكان عبد الحكيم عامر قد غادر دمشق حوالي الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الانقلاب إلى القاهرة، وأيد صلاح البيطار وأكرم الحوراني الانفصال وكانا من بين السياسيين السوريين الموقعين على الوثيقة الانفصالية في 2 تشرين الأول/أكتوبر 1961.

ومع انهيار الوحدة انهارت آمال الكثير من العرب الذين حلموا أن الوحدة بين سوريا ومصر قد تمتد لتكون وحدة شاملة بين الأقطار العربية.

مجلة "الأفكار" بيروت 21/2/2014