العملاق المنسى الملا عثمان الموصلي
بقلم: زيد خلدون جميل / باحث من العراق
الملا عثمان الموصلي أحد أعظم الملحنين والموسيقيين في العالم العربي والإمبراطورية العثمانية. من منا لم يسمع أغنية (زوروني بالسنة مرة)، التي أشهر من غناها المغنية اللبنانية فيروز، وهي الأغنية التي تدعي وسائل الإعلام أن ملحنها هو الموسيقي المصري سيد درويش، وكم من كاتب وصفها بقمة الغناء المصري والعربي الأصيل ودليل على عبقرية سيد درويش، ولكن كم من المؤرخين والموسيقيين يعرفون بأن سيد درويش قد اقتبس هذه الأغنية الرائعة من أستاذه الموسيقار والمغني العظيم العراقي الملا عثمان الموصلي بدون ذكر حقيقة أصلها وهي الأغنية العراقية الصوفية المعنونة (زر قبر الحبيب مرة) ويا ليته كان الاقتباس الوحيد لسيد درويش من أستاذه بهذا الشكل البعيد كل البعد عن العدالة. ولد الملا عثمان بن الحاج عبد الله عام 1854 في مدينة الموصل العربية العريقة عندما كان العراق جزءا من الإمبراطورية العثماني في بيت قديم لعائلة فقيرة جداً فقد كان والده سقاء يجلب الماء العذب من نهر دجلة. وكأن بؤس الفقر المدقع لا يكفي فعندما كان عثمان في السابعة من عمره أصيب والده بمرض لم يمهله سوى بضعة أيام حتى توفي تاركاً أولاده برعاية أمهم المعدمة التي عملت خادمة لدى محمود أفندي العمري سليل عائلة العمري أعرق عائلات العراق وشقيق عبد الباقي العمري الشاعر العربي الشهير في القرن التاسع عشر.
ولم تكن هذه نهاية كوارث عثمان فقد غزا وباء الجدري المدينة في نفس السنة طاحناً الكثير من سكانها، ولم يرحم عثمان فقد أصابه ليشوه وجهه ويفقده بصره ليغرق في عالم الظلام لبقية حياته. احتضنت عائلة العمري عثمان وحرصت على تعليمه القرآن الكريم والشعر والموسيقى وقد ساعد عثمان في التفوق في هذه الميادين حدة الذكاء وصوت جميل وقابلية الحفظ غير العادية أذهلت كل من عرفه وجعلته متفوقاً دائماً على أقرانه. وقد صاحب هذا خصلتان لا يتوقعهما المرء في من هو في مثل معاناة عثمان وهما خفة دمه ولطافة معشره، وقد فتحتا له الأبواب وجعلته جليساً ومستمعاً وقادراً على كسب ود الجميع بدون تزلف أو مشقة. وقد تعمق عثمان في دراسة الدين حتى ارتدى زي رجال الدين وهو الزي الذي لم يتركه طيلة حياته. وقد ترك عثمان الموصل متوجها إلى بغداد بسبب وفاة محمود أفندي لينضم إلى ابنه احمد العمري الذي أصبح من باشوات الدولة العثمانية وأديب كبير.
كانت بغداد نقطة تحول بارزة في مسيرة عثمان، ففيها تتلمذ على يد رحمة الله شلتاغ، سيد المقام العراقي آنذاك ومبتكر مقام التفليس، وآخرين، وفيها خاض أول تجربة سياسية له فقد انتقد الدولة العثمانية في خطبة له أدت إلى نفيه إلى سيواس في تركيا عام 1886 لفترة قصيرة ليعود بعدها إلى الموصل، وفيها تابع دراسة قراءة القرآن الكريم وانضم إلى الطريقة القادرية الصوفية، التي تخرج على يدها الكثير من القراء المعروفين في الموصل وانضم بعد ذلك إلى الطرق الصوفية الرفاعية والمولوية.
علينا التوقف هنا للتمعن في ما كان من الممكن أن يقنع عثمان في الدخول في الصوفية. لقد تميزت أغلب الطرق الصوفية بميزتين أساسيتين أولاهما استعمال الموسيقى في نشاطاتها منذ القرن التاسع الميلادي وتطورت في هذا لتكون مدارس متميزة في الموسيقى والغناء وذات تأثير واضح على موسيقى الشرق الأوسط، وقد ظهرت نشاطات مشابهة لدى الرهبان المسيحيين في أوروبا في العصور الوسطى وقد تطور هذا بشكل بارز فاستعانت الكنيسة المسيحية بأبرز الموسيقيين مثل يوهان سباستين باخ ولا تزال الموسيقى جزءا أساسياً في النشاط الكنسي.
أما الميزة الثانية فكونها ملاذ الوحيدين واليائسين بسبب التكاتف بين أفرادها وكأنهم عائلة واحدة. وهذا يجعلنا نعتقد بأن خفة الدم التي كان يتميز بها عثمان لم يكن سوى غطاء لنفس معذبة غارقة في عالم مظلم مليء بالأصوات. وقد دعمت الدولة العثمانية الطرق الصوفية بكل الوسائل. وقد تعمق عثمان في هذا المجال وبرز في أكثر من طريقة صوفية مثل القادرية والرفاعية والمولوية وأتقن اللغتين الفارسية والتركية وهما إلى جانب العربية في غاية الأهمية لدراسة التصوف.
انتقل عثمان إلى اسطنبول وبرز فيها بسرعة ليصبح أشهر قارئ للقرآن وملحن ومغن فيها وانتشر اسمه في كل مكان حتى سمع عنه السلطان عبد الحميد فجلبه إلى قصره عن طريق القبض عليه ليسمعه شيئاً من أغانيه.
وقد برع عثمان في أدائه وكرر الزيارة عدة مرات بل أنه قام بالغناء أمام حريم القصر وتطور الأمر ليقوم عثمان بمهام رسمية للسلطان عبد الحميد. وكانت اسطنبول عاصمة الإمبراطورية العثمانية ومركز ثقافتها ومن يبرز فيها يعرف اسمه في جميع أنحاء الإمبراطورية وقد ساعد هذا عثمان وجعله مرحباً به أينما ذهب ومكنه من تأسيس علاقات وطيدة مع مشاهير عصره.
كلما دخل عثمان بلداً غنى وتعلم وعلم واعتبر الأبرز في الغناء والتجويد فيه، ففي مصر أدخل نغمات الحجاز كار والنهاوند وفروعهما وقام بإدخال المقام العراقي مثل المقام المنصوري والموصلي في الغناء التركي ولا يزال هذا الطراز يسمى في تركيا بطراز الحافظ عثمان الموصلي. ومن مشاهير تلامذته في مصر محمد كامل الخلعي، احمد أبو خليل القباني، وعلي محمود، ومحمد رفعة، وفي العراق الحاج محمد بن الحاج حسين الملاح، والحاج محمد بن سرحان، ومحمد صالح الجوادي، ومحمد بهجت الأثري، وحافظ جميل، وأما أشهرهم فكان الموسيقار المصري سيد درويش الذي التقى عثمان في دمشق ودرس على يده لمدة ثلاث سنوات وقام باقتباس موشحات دينية وأغان كثيرة من عثمان الذي كان له الفضل الأكبر في نمو مواهب سيد درويش ووصوله إلى تلك المرتبة المتقدمة.
وأشهر ما اقتبسه سيد درويش كان أغنية (زوروني بالسنة مرة) التي كانت موشحاً دينياً بعنوان (زر قبر الحبيب مرة) وأغنية (طلعت يا محلى نورها) التي كانت موشحات بعنوان (بهوى المختار المهدي). كما كان عثمان من دعم مطرب العراق الأول محمد القبانجي.
ما أنتجه عثمان من موشحات وأغان أكبر من أن يذكر بالتفصيل في مقال بسيط مثل هذا إلا أنني سأذكر أشهرها:
* (زوروني بالسنة مرة).
* (طلعت يا محلى نورها).
* (أسمر أبو شامة) الذي أخذ من موشح لعثمان الموصلي بعنوان (احمد أتانا بحسنه سبانا).
* (فوق النخل فوق( الذي أخذ من موشح لعثمان الموصلي بعنوان (فوق العرش فوق).
* (ربيتك زغيرون حسن) الذي أخذ من موشح لعثمان الموصلي بعنوان (يا صفوة الرحمن سكن).
* (لغة العرب اذكرينا) التي غناها المطرب العراقي الشهير المرحوم يوسف عمر واقتبسها فنانون لبنانيون وهنود تحت عناوين مختلفة.
* (يا ناس دلوني) الذي أخذ من قبل محمد العاشق من موشح لعثمان الموصلي بعنوان (صلوا على خير مضر).
* (يا أم العيون السود) التي غناها ناظم الغزالي.
* (يا من لعبت) التي غناها ناظم الغزالي.
* (قوموا صلوا) ناظم الغزالي.
عرف عن عثمان قابليته على التعرف على الرجال من لمس أياديهم وله في هذا أمثلة كثيرة كما عرف عنه تمييزه للنساء من مشيتهن ومن طرائفه أنه كان يعظ في مسجد في اسطنبول عام 1905 وعندما أطال وأسهب نبهه بعض معارفه من وجهاء العراق بوجودهم فقال منغماً في أثناء ترتيله (يا فؤاد، يا موسى، يا وفيق، إنني انتهي قريباً، فانتظروني). واعتقد الأتراك الموجودون في المسجد أن ذلك من جملة التراتيل فأخذوا يردون على أقواله: آمين، أمين.
وفي إحدى الليالي كان يسير برفقة حفيده ممسكاً بيده وراجعاً إلى الدار واجتازا الزقاق المعروف بعقد النصارى. وبينما هما في طريقهما صار الشيخ عثمان يصغي بسمعه إلى جهة ما ثم توقف تحت نافذة ينبعث منها ضوء خافت. فقال له حفيده:
* ما بك يا جدي؟
* اسمع..! ألا تسمع صوت عزف عود؟
* نعم.. وماذا؟
* إن هذا العازف قتلني..! دلني على الباب.
فتقدم حفيده به خطوات نحو باب قريب منهما. فجاء الشيخ وقرعه بعصاه الغليظة وصاح: يا عازف العود.. أو وتر النوى نازل، شده قليلاً.
وكان عثمان ناشراً معروفاً للكتب وأشهرها: الأبكار الحسان في مدح سيد الأكوان (1895، تخميس لامية البوصيري (1895)، المراثي الموصلية في العلماء المصرية (1897)، مجموعة سعادة الدارين (1898)، الأجوبة العراقية لأبي الثناء الآلوسي (1890) والترياق الفاروقي وهو ديوان عبد الباقي العمري (1898). ونشر كتباً لغيره مثل (حل الرموز وكشف الكنوز) وقام بإصدار مجلة في مصر تدعى مجلة (المعارف) وفتح دكاناً في اسطنبول لبيع الكتب.
وامتاز عثمان الموصلي بخصال وطنية بارزة فكان من أكبر مؤيدي استقلال العراق من الاحتلال البريطاني، وله في هذا مواقف كثيرة لا تخلو من روح النكتة، ففي خلال تجمع جماهيري في الكاظمية لمقاومة الاحتلال البريطاني سمع الحاضرون صوت أزيز غريب وظنوا أنه صوت طائرة معادية وكانت النتيجة هروبهم جميعاً مذعورين وتاركين عثمان وحده وهو الذي ميز حقيقة مصدر الصوت الذي لم يكن سوى أحد المصابيح الغازية (لوكس). فقال عثمان متهكما: لا والله حصلنا استقلالنا.
على الرغم من كونه مرحاً، عذب المعشر، مرهف الحس، سريع البديهة، أعظم المغنين، شيخ قراء القرآن، ملحناً يمتاز بطابع البهجة، مغنياً، رجل دين، لاعب شطرنج ماهراً، لا يعرف النسيان، عازفاً بارعاً للعود والطبلة والقانون والناي، ناشراً للكتب ومؤلفاً لها إلا أن هذا لا يخفي الطبيعة البائسة للرجل التي كان كل من درسه بعمق يكتشفها: ارتماؤه في أحضان الصوفيين وانشغاله الدائم في مختلف الفنون لم يكونا سوى وسيلة له لنسيان بؤسه في عالم الظلام وشعوره المخيف بالوحدة في عالم لا يستطيع رؤيته، وشعوره المخيف بالوحدة جعله لا ينسى أصدقاءه المقربين الذين رثاهم وكتب عنهم.
ومن الواضح أن نفسيته المضطربة كانت عاملاً مهما في حبه للتنقل وكأنه غير قادر على العثور على راحة البال في أي مكان.
وانتهى عذاب هذا العملاق يوم الثلاثاء المصادف 30 كانون الثاني (يناير) 1923 في بغداد تاركاً إرثاً عظيماً أرجو أن لا ينساه العرب كما نسوا غيره فمن نسي تاريخه تاه في درب الحياة.
"القدس العربي" لندن 22/7/2010